قصة “جدتي والوشاح” المنشورة في ميريت الثقافية العدد 48 ديسمبر 2022

جدتي والوشاح

قصة قصيرة

شعري الكثيف المجعد العنيد الذي حاولت أن أقمعه بالبنسات والأربطة المطاطية السميكة، فلم أستطع. أغطيه بوشاح استعرته من زميلتي الفلبينية “ماي” وقت أن كنت أستعد لليلتي الأخيرة في “حولي”. عدنا في المساء في سيارة “ماي” بعد العمل. إن علمت أمي أنني استعرت وشاحاً للامتني. أمي لا تدرك أن استعارة أي شيء ليست عيبا هذه الأيام.

قلت لـ”ماي”

“طائرتي ستغادر غداً ولا أملك وشاحاً مناسباً. أمي أخذت معها كل ملابسها…”

لم أسترسل أكثر. “ماي” زميلة عمل ولا تحتاج إلى أن تسمع قصة حياتي.

فكرت في عباءاتي الكثيرة المزركشة المعطرة، لكنها ستصمني بما لا أريد على أرض المحروسة. يجب أن أرتدي وشاحاً على الرأس. لديّ أوشحة. لا أذكر أين وضعتها ضمن ملابس الشتاء لأنه لا شتاء في الخليج، لأنك عندما تحمل حقائبك وترتحل، تضيع منك المواسم.

الآن أضع الوشاح المزركش على رأسي بعض الوقت، ثم أتركه يسقط على كتفي وقتاً آخر. الممرضات يحملقن في شعري بمجرد دخولهن غرفة جدتي. مما يدفعني إلى تغطيته مرة أخرى بذلك الوشاح الفلبيني الذي يحمل علامة صنع في فيتنام. لا أدري أينا يخدع الآخر.

جدتي لا تتحرك إلا قليلا. أحيانا تتكلم في نومها. أستيقظ في الليل وأرد عليها

“تيتا، عايزة حاجة؟ أنت صاحية؟”

لكنها لا تقول شيئا. أغمض عينيّ مرة أخرى، وأحاول أن أرحل إلى عالم الذكريات. أتخيلها ذكريات جميلة. أدعي أنها ذكريات جميلة. لكنها ربما لم تكن كذلك. كان هناك كثير من الصياح والخوف والدموع، يذرفها الجميع، حتى إخوتي الصبيان وهم صغار. كانوا يبكون كثيرا. لكنني أذكر بيت جدتي جيداً. بيتها الصغير في ذلك الشارع الضيق. تصل إلى باب ضيق ثم ينفرج عن باب آخر مغلق بقفل دائماً. كان هناك أربع طوابق. بيت جدتي كان يشغل الطابق الأول كله. كان أثاثه غامق اللون وبقايا حيوات من عاشوا فيه مبعثرة في أركانه وبعضها محفوظ في كراتين مغلقة على آثارهم. وكنت دائما أسأل بإصرار

“أوضتك يا بابا فين؟”

وكأنني سأعيد رسم طفولته، أعيد خلقه مرة أخرى. خلق بابا. بابا الذي رحل إلى الكويت وكأنه مات. لسنوات طويلة كنا نسمع صوته على الهاتف، وهو يعدنا بزيارات، ثم يخطيء الميعاد. وينفلت الزمن بين أصابعنا. أقول لأصحابي إن أبي سيمضي معنا إجازة نصف العام وسنزور الأقصر وأسوان. أمزج قصصاً كثيرة خيالية حول أبي. أجدل من كلمات أمي وخالتي وربما آخرين حبالا موصولة مع أبي لم تستطع أمي استيعابها. وكانت تغضب وتقول عني

“البت دي سوسة. معجونة بماية الكذب.”

الآن الممرضة تعيد ترتيب وضع السرير. جدتي بين الصحوة والغفوة. ما أذكره هو أنها كانت جميلة جدا ونحن صغار. عندما كنت أسأل أمي عن ذلك، كيف أنها لا تبدو عجوزاً مثل باقي الجدات، كانت تقول

“كانوا بيجوزوا البنات صغيرين يا حبيبتي.”

لم أفهم هذه المقولة وقتها، لأني أعرف أن العروس يجب أن تكون كبيرة كي ترتدي فستان زفاف. وتخيلت كيف يكون الزواج بين جدتي وجدي الذي لم أرَ سوى صوره المغبرة المعلقة على حيطان البيت وصور ملونة له في ألبوم قديم ضخم. يضع سيجارة في فمه ويده على كتف قريب في حفل عقد قران. جالس على كرسي شاطئ وعلى وجهه نظارة سوداء وبجانبه أبي وعمي يرتديان شورتيّ بحر مضحكين. ثم راح فضولي حول حياة جدتي مع الزمن. ولكنني لم أفهم لماذا جدتي لم تكن تبدو مثل باقي الجدات. الآن أنظر إليها ما زالت لا تبدو مثل باقي الجدات. ربما أنا لا أرى جيداً.

“مصر دلوقت اتغيرت عن زمان. تعملي زي ما عمك هيقولك. متمشيش من غير مشورته.”

كانت وصية أبي لي التي كررها على مسامعي بطرق مختلفة وكلمات مختلفة. وأخيراً قبل أن أتجه إلى صالة المسافرين قال ما كنت أعرف أنه يدور في باله

“هتروحي تشوفي مامتك؟”

 بشرة جدتي الناصعة البياض لا يشوبها شيء. لا تبدو عليها علامات الزمن، ولا بقع التعرض للشمس طويلاً. شعيراتها البيضاء قليلة، حتى لتكاد تظن أنها ربما كانت تصبغ شعرها بإصرار وصبر عبر السنوات.

أحدثها، أقول لها

“أنا داليا يا تيتا. ازيك؟ أنت كويسة. وحشتيني قوي. أنا داليا. أنا جيت من الكويت.”

أحاول تصحيح لكنتي المصرية، تخرج كلكنة أجنبية.

أبي يتحدث بمصرية خالصة

“متقلقيش. عمك متفق مع صاحب البيت. وملكيش دعوة أنت بموضوع الشقة.”

 يسقط الوشاح من على رأسي. لا أعبأ به. أحاول أن أتجنب نظرات مرتدي البالطو الأبيض وزوار المستشفى قدر الإمكان.

“لكن يا بابا لو تيتا بقت كويسة… قصدي إن شاء الله تبقى كويسة، مش هترجع الشقة؟ مش هترجع بيتها تاني؟”

“اسمعي اللي بقول لك عليه. عمك هو المسؤول. ملكيش دعوة بالموضوع ده.”

لا أفهم شيئاً. النقاش معه غير مجد. ربما هو تحت وطأة الصدمة، صدمة فقد الأم. ربما يظن أنها مفقودة. لكنني أحدثه عنها، عن تناولها بعض الطعام اليوم. ربما تغفو. تتكلم قليلا بصوت واهن ثم تغفو. أقول له إنني أفهم كلامها، إنها بخير، إنها خرجت من الإنعاش. لكن أبي لا ينصت. ننهي المكالمة وأنا لا أعرف ماذا سأقول لتيتا. هل آخدها معي إلى فندق؟ هل يوافق أبي على ذلك؟ أنا الصغرى. أنا لا أعرف شيئا. لماذا تحمست للمجيء؟ لا أحد يتحدث لهجتي هنا. أنا غريبة. أتحدث بنصف لسان. البعض يعتقد أنني خليجية. هل أنا كذلك؟

 أعود إلى غرفة جدتي. إنها تغفو. جهاز المحاليل معلق بيديها كأنه خيط واهن يربطها بعالمنا، بعالمي. ودكتور القلب سيأتي لزيارتها. دعامات قلبها بحاجة إلى إشراف طبيب. هو الحَكَم وربما يصدر الحُكم الأخير، حكم الحياة أو الموت. ربما هذا ما ينتظره أبي. وربما هذا ما أنتظره كي أفلت من هنا وأعود إلى هناك.

تمت

نبذة عن الكاتبة

نادية توفيق كاتبة مصرية مقيمة في كندا. حاصلة على بكالوريوس الصيدلة وماجستير في الأدب المقارن ودكتوراه في الأدب الفرنسي. فازت روايتها “نساء المحروسة” في مسابقة “ببلومانيا للرواية العربية 2020”. الرواية تتحدث عن حرية الفكر والروح والجسد، والحدود بين المذكر والمؤنث على مدار الجغرافيا المصرية. ولديها حالياً رواية قيد النشر بعنوان “أنشودة بمداد أحمر”.

بدأت منذ سنوات بكتابة القصة القصيرة. ونشرت بعضا من قصصها ومقالاتها في دوريات أدبية مثل “إبداع” و”القصة” و”ميريت الثقافية”. باكورة أعمالها هي المجموعة القصصية “أجنحة متكسرة” التي تتحدث عن الحب والحياة والموت والأمنيات الغالية.

الموقع: http://nadiatawfikbooks.com/

فيسبوك وتويتر وانستجرام: @nadiatawfikbooks

يوتيوب: @nadiatawfikbooks

جودريدز: Nadia Tawfik نادية توفيق

Facebook Comments