هو ذلك الموظف الكبير الذي تجاوز الآن العِقد الخامس من العمر بقليل يعمل بإحدي الوزارت الإنتاجية والتي تمنح الرواتب بسخاء مُفرط، وظيفته المرموقة تُدر عليه دخلاُ مادياً كبيراً ومُميزاً، وعلى الرغم من أنني أعرفه بشكل غير مباشر منذ فترة طويلة، حيث كانت جمعتني به جلسات مع صديق ثالث، إلا أننا لم نصل لمرحلة أن تجمعنا صداقة مُباشرة.

ورغم أن له “بوزيشن” له اعتباره إلا أنه لم يكن ذو “كاريزما” توحي بتلك المكانة الوظيفية، فهو لم يُعر مَظهره العام اهتماماً حتى تناسق هِندامه، رغم أنه يرتدي ملابس ماركات “برندات”، ولا يُجيد حديثاً سوى حديث الماتشات وكرة القدم فلديه مَعرفة كروية لا بأس بها، إلا أنه للأسف لم ينعكس حبه للرياضة على لياقته البدنية فلم يتمتع بهيئة رياضية، ليس هذا فحسب لكنه شخص تراه عادي جداً ولا يُبهرك، لكنه طيب القلب وكريم، يُدخن كثيراً وبشراهة سجائر “كِنت” لكن بطريقة ليست مُغرية كباقي المفتونين بالتدخين الذين لهم طقوس خاصة في تناول السيجارة من أول خروجها من العُلبة واستخدام الولاعة، وكذلك سحب النَفَس وهم يتحدثون ويخرج الكلام مصحوباً بسحابة الدخان، كما أنه يُسرف في تناول وشرب القهوة كَشُربه للماء، فلم يستوقفني كثيراً عندما شاهدته أول مرة جالسته فيها، فقد نسيت أني رأيته أصلاً أو جلسنا سوياً من ذي قبل.

إلا أن الظروف جمعتني به مَرةً أخرى من فترة ليست بالقصيرة لكن بعد مرور فترة زمنية كبيرة تُعد بالسنوات، ورغم عدم تَذكري له قابلني بكل سرور وتِرحاب وطِيبة قلب وقد عَرفَني ثم ذَكرني بنفسه وسلم علىَّ بحرارة وعانقني كما لو كان صديقاً مُقرباً، ثم أخبرني أنه في بعض الأحيان يُتابع كتاباتي القَصصية والشِعرية بالفيس، وعلمت منه أيضاً أن زوجته (فيسبوكية) على حد تعبيره وتُتابعني بل ومن الصديقات التي تتخذ الأسماء المُستعارة، حيث أن لها اهتمامات ثقافية وكتابة خواطر أدبية بل وتتأثر بما أكتب وتُعلق، أما هو يقرأ أحياناً لكن دون أن يُعلق أو يُناقش، أو حتى دون أن يُكلف خاطره بالحد الأدنى ويضع إعجاب، وذلك لكونه قد لا يُكمل القراءة نظراً لعدم تنمية الشغف الثقافي لديه والتذوق الأدبي على حد تعبيره، كما أنه لا يُجيد التعامل مع عالم السوشيال ميديا كزوجته المُتمرسة، ولولا طبيعة عمله التي تتطلب “الواتس والماسنجر والبريد الإلكتروني”، ماكان سيتعامل مع الشبكة العنكبوتية، وأثناء حديثه هذا قام بإجراء إتصالاً هاتفياً مع زوجته وأخبرها بأنه يجلس معي ضمن مجموعة من الأصدقاء على أحد المقاهي، فطلبت منه هى الأخرى أن تُسلم علىَّ فناولني هاتفه على الفور، سلمت ورحبت وأثنت على كِتاباتي، وطلبت مني أن أتفضل بزيارتهم حال وجود وقت مناسب لدىَّ، ولأنها تُريد أن تُطلعني على ما كتبته لأخبرها برأيي، وإذا أعجبني ما سَطرّتْ أقوم مشكوراً بعمل تقديم لها، حيث هى مُترددة في عمل كتاب مطبوع، فوعدتها أن يتم ذلك في أقرب فُرصة عند حلول مناسبة سعيدة لديهم، وإذا دعوني لن أتردد في زيارتهم، فقالت نعتبر ذلك وعدا فقلت وعد.

وانْصَرَفَ الجَمع ومَضَى كُلٌ منا إلى حال سبيله، ولكن بعد تبادلنا أرقام الهواتف النَقالة في تلك المَرة، وبعد مرور عاماً كاملاً على هذا اللقاء دون أي تواصل يُذكر وجدت رسالة على (الواتس آب) مُرسلة منه يطلب مني فيها أن أزوره بمنزله بأقصى سرعة ممكنة لأمر عاجل وهام وأرفق ( “اللوكيشن” موقع الوصول لهم بطريق الجي بي إس) حيث عنوانه بالمنطقة الراقية التي يقطنها بالقاهرة الكُبرى.

فتعجبت كثيراً وقمت بالإتصال به تليفونياً أستفسر عن سر تلك الرسالة المُستعجلة والتي تحمل في طياتها لهجة إستغاثة !!!

فاخبرني أنه وزوجته مُختلفان ومتخاصمان وتأزم الوضع بينهما و (واقفين على الطلاق !!!) وهى مُصرة على ذلك بشدة، وقد جرب معها جميع المحاولات ليُثنيها عن طلبها لكنها مُصرة وبشدة، لكنه توصل معها لحل بعد أن عرض عليها اسمي كي أتواجد بينهما فالأخيرة وافقت ….. فما كان مني إلا أن ذهبت إليه مُلبياً لكي أتبين هذا الأمر الذي حَزَبَهُ !!!!!

ركبت سيارتي وسبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مُقرنين، وصلت حسب العنوان بذلك الحي الراقي المُخطط حديثاً على نظام (الكمبوند).

قابلني الرجل ورحب بىَّ كثيراً رغم أنه كان حزيناً ووجهه عَبوساً مُقطب الجبين يعلوه شُحوباً وذُبولاً،  إلا أنه ورغم ذلك  بالغ في الترحيب بي، ودلفنا سوياً إلى داخل شقته المزدوجة “الدوبلكس” ذات التشطيب “الهاي لوكس” ثم أجلسني على صالون فرنساوي من طِراز شهير ثم خرج، فشاهدت مَسكناً مثل البانوراما من حيث الأثاث الفاخر، ومن أول الأرضيه الباركيه المفروشة بالسجاد العجمي الذي تغوص فيه الأقدام ، للتابلوهات والبورتريهات غالية الثمن المُثبته على الحائط، لثُريَات تَدلى منها كريستال بلجيكي وباهظة الثمن تتألق بالأسقف، وللمكتبة التي حوت بعض كُتبٍ وتُحفٍ وإطارات صور  شخصية قد وثَقَتْ رحلات سياحية لمعالم أوروبية شهيرة، وبالركن بيانو ألماني “اثنين بَدال” يعلوه على الحائط بورتريه كبير الحجم لصورة زيتية بالألوان لسيدة “مودرن” مثل الموديلات عرفت أنها لزوجته بعد أن رأيتها، وأنا في غَمرة تلك المشاهدات دخل مرةً أخرى يحمل بين يديه صينية عليها كوبين كبيرين من القهوة الدوبل وقارورة مياه معدنية غالية الثمن ليست من النوع الشعبي المُتداول، ولأنني كنت مُتلهفاً على إستجلاء الأمر، فقلت له اجلس واحكي لي ماذا حدث ؟؟!!

فقال أولاً وقَبلاً … ما حدث قد حدث 

أنا لا أُبرر الموقف الذي فعلته … 

ولا أدافع عن نفسي …

ولا أطلبُ إلتماس أعذار …

فلقد قهرني شيطاني 

وانتصر على إرادتي ….

وارتكبت حماقة مراهقة مع المرأة الشَغالة !!!!!!

ثم هز رأسه مؤكداً ما فَهِمْتْ مِما قَال ….

فكاد أن يقع مني كوب القهوة لشِدة ذهولي وعدم تصوري لِما قال ….

فقاطع ذهولي فوراً قائلاً لم تصل حد “الخطيئة” ….

 ثم يُكمل وهو شارد الذهن ….

 وهذا لا يُدرج تحت أنه تَبرير ….

لكن لا أعرف كيف ولِمَ فعلت ذلك؟!

ويضرب كفاً بكف ….

فعندما عادت زوجتي من العمل فجأةً على غير عادتها شاهدت الموقف بأم عينيها، فأُصابها انهياراً عَصبياً ولم تَقوَ على الكلام، ولمدة خمسة أيام وأتيت لها بالطبيب هنا فقال وضعها يستلزم علاج وراحة تامة، وقد لزمت الصمت ولم تتحدث بعدها سوى بالأمس، وعندما اتفقنا أن أرسل لحضرتك الرسالة، ثم سكت تماماً …..

فأخذت أبحث عن رِيقي فلم أجده !!!

فمصمصت شفتيَّ وقلت له مُتعجباً ….

يا سيدي أنت مُعترف بالخطأ ….. 

وليس لديك تعليلاً أو تبريراً لِما حدث …

( وف عز الكلام سِكت الكلام ) … 

في تلك الأثناء دخلت زوجته التي لم أرها من قبل سوى أني سمعت صوتها الراقي المُهذب عبر المكالمة الهاتفية سالفة الذِكر ومن عام مضى …… 

وأنها صاحبة الصورة الزيتية ….

رأيتها سيدة على مشارف العِقد الرابع من العمر ، تتمتع بجمال ممزوج بثقافة فهى وبلا منازع من طبقة الهوانم، حيث يَشِع  الألق من وجهها، ومظهرها قمة في التأنق وعندما تحدثت كان كل التألُق بالحركات والسكون، رحبت بي وقالت تشرفت بحضرتك يا فنان، كنت أتمنى أن تأتي وأنا في ظروف نفسية أفضل من ذلك، ولكني فضلت أن تُفسر لي ما حدث أمامي ، فلقد شاهدت زوجي المحترم الذي لم يبادرني أو يخالجني الشك نحوه للحظة أو لِبُرهَةُ، لثقتي فيه وثقتي في نفسي والذي يُحسدونه الآخرين على أنه مقترن بي، لكنه للأسف  تَخَلقَ بأخلاقِ الذُباب ولك أن تتصور يا سيدي مالذي هَفَتْ إليه نفسه …. شغااااااالة ….. 

وانخرطت في بكاءٍ عالي النَّشِيجُ ….  فرجوتها وهدأت من روعها قدر ما استطعت مُشفقاً عليها ثم طلبت منها أن تسمعني .

يا هانم إن زوجك أقر واعترف بخطأه ولم يُعط نفسه مجالاً أو حقاً لمُرافعة، والإعتراف بالحق فضيلة … 

لكن دعينا نفسر ما حَدث لماذا حدث ؟!

فهزت رأسها بالموافقة فقلت لها .

إن قوة شخصيتك وفيوض العطاءات الربانية عليكِ، والتي تُثبَتْ لكِ دَوماً بالدليل والبُرهان من خلال الإطراءات التي تسمعينها من كل من يتعامل مَعكِ، بل أن البعض يستكثرون على زوجك تلك النِعم . 

إن هذا الشعور قد وصله بالفعل ويستشعره في نظرات الآخرين، مما جعل هذا الرجل يشعر بالنقص الشديد أمامك وأنه بالدرجات الأدنى، فدائماً يشعر أنه هو الذي يُقدم لكِ فروض الولاء والطاعة ويسترضيكِ ويحاول إسعادك، فعندما ارتكب مثل تلك حَماقة، كان تحت تأثير مُخدر الإستجابه للنداءٍ الداخلي ليُثبت له ولنفسه أنه قادر على إغراء إمرأة، وأنه يملُك السيطرة على قلب أنثى تُشعره بقيمته، بل وتُمعن في تَدليله والرضوخ له والتقرب إليه وإشعاره أنه ذو قيمة و …

فقاطعتني وقالت وها قد فعل ومع الشغاااااالة !!!! كل ما يُرضيه وتقربت منه الحلوة وقبضت ” الثمن”…..

ثم بكت بِحُرقة وقالت وهى تتماسك يا سيدي لقد رَحبت بوجودك ليطلقني أمامك، ومن ثَمْ يأخذ حقيبة ملابسه وتأخذه معك ويرحل عائداً إلى بلدتهم …

ثم سكتت ثم أخذت تهمهم بكلمات غير مفهومة ثم وجهت حديثها لنفسها لقد قاومت كثيراً رغم ما تعرضت له من استفزاز وابتزاز، لكنني قاومت كل نِقاط ضَعفي ونَقصي الذي هو أحد مُفرداته …. 

 فالآن الآن يرحل وإلى الأبد …. 

لكي أحافظ على نفسي ونفسيتي وابني الوحيد الذي خرجت به من الدنيا … 

فرجوتها بعد أخذٍ وردٍ طال التحدث فيه لساعات طِوال ولم أتمكن من زحزحتها عن موقفها من فِكرة الطلاق قيد أُنملة، وفي نهاية المَطاف طلبت منها مَطلباً واحداً وهو أن الزوج يأخذ حقيبته كما أرادت ولكن يتم تأجيل قرار الطلاق مؤقتاً لحين البَتْ فيه بشكل نهائي، وتُقرر لاحقاً عما إذا كانت ستُعطيه فرصة أخرى أم يتم الطلاق .

ثم أردفتُ قائلاً لها اسمعي مني كَلمةٌ أخيرة يا هانم، أنا لا أبرر ماحدث ولا أعذره ومُقدر لجميع جروحك، من أول جرحك في أعز ما تملكين وهو حضورك الطاغي واعتزازك واعتدادك بشخصيتك وذاتك، وأصولك وجذورك العريقة وكنوزك المَعرفية والثقافية …..

لكن بحاول أفهم لماذا حدث فقط ……..

ولابد أن تعلمي أنك أحببتِ طِيبة قلب هذا الرجل السَخي المِعطاء الذي لم يبخل عليكِ وعلى بيته أو تربية ابنه بالمدارس “الإنترناشيونال” فقد بذل الغالي والنفيس لسعادتكم، علاوة على تفانيه في إسعادك وإرضاءك وتلبية جميع طلباتك وإرضاء طموحاتك، فالمُحب دائماً سَخي العَطاء إذا أحب فهو أحبك وعبر بطريقته عن حبك ومن حقك أن (تَتَملكين وتُسيطرين) فكلتاهما صفتين للمُحبين وحين يريد المُحب أن يتملك حبيبه يكون ذلك بمزيداً من إظهار حُبه له، وإذا أراد أن يكون عليه بِمُسيطر، فَليَكُنْ شَريطة أن يكون بتبادل أدوار السيطرة ولا تكون لطرفٍ واحد على طول الخط وطول الوقت ………فتنهدت وهدأت ثم أخذت شهيقاً طويلاً وقالت يرحل الآن ثم دَعني أُفَكِر …………….

كتابي { نبضات الذكريات }

بقلم / محمد عاطف سلامة

كاتب وشاعر وقاص من  مصر

Facebook Comments