يسعى الكاتب في كل اللغات إلى منح شخصياته لغتها الخاصة بها مما يدعم قوتها داخل الحبكة، و”مصداقيتها” الأدبية leur vraisemblance. ويتبدى ذلك في الحوار الدائر على لسانها. عندما تقرأ الأدب بلغات غير العربية تجد أن الشخصيات تتكلم كما قد تفعل إن كانت بالفعل من لحم ودم أو تكاد.


لا يتحرج الكاتب كذلك في ترك الأخطاء النحوية وأحيانا الإملائية لدعم لغة شخصياته. وهناك نقاش أحيانا ما يدور بين كتاب الإنجليزية حول اللهجات. فقد تكون الشخصية أيرلندية مثلا أو تعمل في مهنة لها خصوصية لغوية مثل مهنة البحارة أو أن تكون شخصية تاريخية تتكلم بطريقة لم تعد مألوفة اليوم. وهنا يتساءل الكاتب هل يتركها تحكي كما شاءت، مما قد يجعل من الصعب على القاريء فهم ما تقول، أم “يعدل” لها لسانها كي يصبح الحوار سلسا لدى القاريء الحديث.


تختلف الآراء هنا حول الحل الأمثل. فمنها ما يدعو الكاتب مباشرة إلى التخلي عن مصداقية اللغة لدى الشخصية والتركيز على أن تكون الكلمات في متناول القاريء دون عناء. والحل الثاني هو التخفيف من اللهجة ومحاولة مقاربتها مع الإنجليزية القياسية أو الفصحى مجازا. وهناك من يقول دع الشخصية تحكي كما تشاء والقاريء سوف يستوعب الحوار من خلال أحداث الرواية كما أن بعض القراء يعلمون هذه اللهجات والمصطلحات. وأخيرا يقترح البعض الإبقاء على صوت الشخصية وعدم تغيير كلامها وعمل فهرس بالمصطلحات في نهاية الكتاب. وهو أمر، بطبيعة الحال، غير مألوف تماما في الأعمال الروائية والقصصية.


عموما، كل هذا جميل ومفيد. وكل عمل يفرض تحديات أمام كاتبه فيما يتعلق بأشياء مختلفة من بينها اللغة. ما يحير في الكتابة الأدبية باللغة العربية أن الآراء الخاصة بتضمين حوار يدور باللهجة التي تتحدث بها الشخصيات يدخلنا في جدل حول قيمة الأدب ذاته في حال احتوى على قليل أو كثير من العبارات الحوارية العامية أو الدارجة.


من خلال قراءاتي بلغات أخرى أجد أن حوار الشخصيات كلها يتماشى معها. والكتب الصوتية المعدة إعدادا جيدا تثبت كيف أن حديث الشخصيات بما تعرف يزيد من قوة القصة ولا يضعفها. وكثير من اللغات يقرأها وينطق بها أناس من بلدان مختلفة، مثل الإنجليزية والفرنسية والإسبانية. وتلك الأخيرة يختلف الناطقون بها في النطق وأصوات الحروف وكثير من المفردات، بل إن هناك ضمير فاعل لا يستعمل إلا في إسبانيا فقط اليوم وهو

Vosotros

بمعنى “أنتم”. والواقع أن كل متحدثي الإسبانية يقرؤون الأدب المكتوب بالإسبانية من كافة البلدان، ويتأقلمون مع تلك الاختلافات.


اللغة العربية ليست بدعة بين اللغات، حتى وإن ظن أصحابها العكس. وحبسها داخل قمقم سيجعل بتدهورها وليس العكس. وهي مثل كل اللغات ستتعرض لرياح التغيير. فاللغة كائن حي.
La langue est un être vivant.
هذا ما يقول به علم اللغويات. ومن ناحية الأدب، هناك أدب جيد وهناك أدب أقل جودة. والحكم على ذلك يقدمه النقاد والقراء. وسيختلفون بطبيعة الحال. وجزء من البراعة في الأدب الجيد هو خلق شخصيات قوية لها أبعاد عميقة، تمتلك تاريخا وذاكرة وملامح و”شخصية”، ومن أهم أدوات تلك “الشخصية” هو لغتها وطريقة كلامها. وحتى إن اختار الأديب، لأسباب فنية أو حتى عملية أو جمالية، أن تتحدث شخصياته بالفصحى، فليكن له ما شاء. المهم أن نفتح الباب على مصراعيه للإبداع ولا نقيده بقيود وهمية لا تفيد أحدا.

#الأدب #الروايات #الشخصيات #الحوار
#نادية_توفيق

Facebook Comments