من أهم الإنجازات الكبيرة في الساعات الأولى لحرب أكتوبر المجيدة عام 1973 كان تحطيم تلك الأسطورة الكاذبة المسماة بخط بارليف المنيع، وهو اسم أحد القادة العسكريين للعدو.
تعتبر الدعاية من أهم أسلحة الحرب التي خضناها منذ أعلن هذا العدو عن نواياه السيئة ضد مصر، وهي تتمثل في المبادئ التي نشأ عليها والسياسات التي مارسها، والحروب العدائية التي شنها على مصر، إضافة إلى الحروب التي استخدم فيها الأسلحة الثقافية وسلاح الإسلام السياسي والسلاح الاقتصادي. خلال كل تاريخه الأسود معنا، كان دائمًا يلجأ إلى الدعاية الكاذبة المغلفة بأسطورة الجيش الذي لا يُقهر والشعب المختار، والمبالغة في إبراز قوته وعظمته وذكائه وفطنته، وكل أفعال التفضيل الممكنة والمستحيلة معًا.



آلة الدعاية الجوبلزية


وبطبيعة الحال اشتغلت آلة الدعاية الجوبلزية لتكريس فكرة بلهاء مفادها أن خط بارليف غير قابل للاختراق، ولا حتى بالسلاح النووي. فقد قال عنه بارليف نفسه عندما كان يشغل منصب رئيس الأركان: “لا أعتقد أن المصريين يستطيعون مهاجمة أحد حصوننا والاستيلاء عليها، ولا أعتقد أنهم يستطيعون عبور القناة، ومع هذا، ففي وسعهم التسلل بين الحصون وزرع الألغام، فهم يستطيعون أن يفعلوا هذا فقط.”


لم يكن العدو يدري أنه يحفر لنفسه حفرة تحت قدميه عندما نشر تلك المبالغات الكاذبة حول التحصينات التي أقامها على قناة السويس. فنجد موشى ديان يقول: “يلزم مصر كي تحقق عبور قناة السويس واقتحام خط بارليف سلاح المهندسين الأمريكي والروسي معًا.”


لا بد أنه أصيب بالهلع عندما عرف أن سلاح المهندسين المصري تمكن من جعل خط بارليف نسيًا منسيًا، وحفر له قبره على الأرض المصرية الطاهرة التي دنسوها. كما لا بد أنه بكى كثيرًا على الـ500 مليون دولار التي ضاعت هباءً.


أما الكذبة التي تعتبر أم الكذبات فهي تلك التي كان ينشرها العدو وأبواقه في الغرب والشرق، والتي مفادها أن الخط غير قابل للتدمير حتى بالقنبلة الذرية. وهذه عبارة تثير كثيرًا من علامات التعجب التي لا تكفيها مساحة هذا المقال، وتطرح عددًا لا بأس به من التساؤلات المنطقية والعقلانية. إن القنبلة الذرية هي قنبلة عمياء لا تبقي ولا تذر. فهل يعقل أن بناءً من الدُشَم الحصينة، مهما كانت متانة تصميمه وعمقه ومواد بنائه، يصمد أمام القنبلة الذرية، مع الأخذ في الاعتبار أن القنبلة التي استُعملت في الحرب العالمية الثانية تم تطويرها كي تصبح أشد فتكًا وضراوة فيما بعد؟ فالقنابل المستخدمة في الحرب العالمية الثانية كانت ما بين 15 إلى 20 كيلوطن، ونحن جميعًا لمسنا آثارها المدمرة على الكائنات والموجودات، بينما القنابل التي تم تطويرها في أوائل السبعينات كان يمكن أن تصل قوتها إلى عدة مئات من الكيلوطن أو حتى أكثر.



عبور قناة السويس


كان العبور نقطة مفصلية أمام قواتنا المسلحة، وكان عليها أن تتغلب على موانعه التي تمثلت في الساتر الترابي المقام شرق القناة والذي كان يصل ارتفاعه إلى 20 مترًا. والنقاط الحصينة المسماة بخط بارليف والمتصلة ببعضها البعض من خلال شبكة من الأسلاك الشائكة بينها حقول ألغام ومزودة بأجهزة إنذار لكشف أي تسلل أو هجوم.


كانت تحتوي على 24 ملجأ للأفراد والمعدات، 26 دُشمة للرشاشات، وأربع دُشم للأسلحة الصغيرة، وعدد من مصاطب الدبابات. كانت حصنًا حقيقيًا وتحديًا كبيرًا أمام القوات المسلحة المصرية التي استطاعت بقدراتها وعبقريتها أن تحطم كل هذا الحصن الحصين في ست ساعات فقط.


وبما أن عدونا مغرم بالنابالم الحارق، لأنه لم يحترم يومًا القوانين الدولية التي تدعو لعدم استعماله، فقد أضاف مواسير النابالم في النقاط الحصينة التي تصب عند سطح القناة لتحويل سطح مياه القناة إلى نيران لا تنطفئ.
مع العلم أن النابالم سلاح لا إنساني بسبب الأذى الذي يلحقه بالمدنيين والبيئة. بالرغم من عدم وجود معاهدة دولية محددة تحظر استخدامه بشكل قاطع، فإن بروتوكول 1980 الإضافي لاتفاقيات جنيف يحظر بعض أنواع الأسلحة غير الموجهة والتي تسبب أضرارًا مفرطة، وتسعى العديد من الدول والمنظمات غير الحكومية إلى حظر استخدام مثل هذه الأسلحة. ويحضرني السؤال هنا: ما الذي يمنعهم من تحريم النابالم الحارق؟



بدأ الحل باقتراح من العبقري المصري اللواء أركان حرب المهندس باقي زكي يوسف، رئيس فرع المركبات بالجيش الثالث أثناء حرب أكتوبر، وصاحب فكرة إزالة الساتر الترابي بخراطيم المياه. هذا العبقري المصري كشف العوار في الأكذوبة المسماة بحصن بارليف في ثلاث نقاط رئيسية، أولها أن الساتر الترابي يعتمد في تكوينه على الرمال، وثانيها أنه تمت إقامته بزاوية مائلة 80 درجة، وثالثها أن الساتر أُقيم على حافة الضفة الشرقية. لسوء حظهم أنهم لا يمتلكون مهارات هندسية تضاهي مهارات المهندسين المصريين.
قامت فكرة المقدم باقي زكي يوسف، رحمه الله، التي اقترحها على قياداته عام 1969 على أن المياه ستكون هي القوة التي ستزيح الرمال، وقال: “إذا أثرت قوة أو مجموعة قوى على جسم، فإنها تكسبه تسارعًا يتناسب مع محصلة القوى المؤثرة.”


وعلينا أن نؤكد هنا أن خطة القوات المسلحة المصرية، وفق اجتماع المجلس الأعلى للقوات المسلحة بقيادة السادات مساء 24 أكتوبر 72، أي قبل الحرب بحوالي عام، هي العبور بأقل قدر ممكن من الخسائر، ثم اقتراح إيقاف إطلاق النار لمدة ستة أشهر حتى تنسحب قوات العدو من الأراضي المصرية، وإن لم تفعل تواصل قواتنا القتال حتى تحرير الأرض.


وبالفعل بدأت القوات المسلحة المصرية في العبور في الساعة الثانية وعشرين دقيقة من يوم السادس من أكتوبر بـ720 قاربًا تحمل 4000 مقاتل مصري، وقامت قوات الصاعقة المصرية باحتلال مصاطب دبابات العدو غرب القناة لمنعه من دعم خط بارليف، وأخذت تدمر الدبابات المتحركة شرق القناة واحدة تلو الأخرى. كانت الخطة المصرية لتدمير الساتر الترابي محكمة ومفصلة ونجحت نجاحًا باهرًا. تمكن المهندسون العسكريون المصريون من فتح الثغرات في الساتر الترابي بقوة 70 فصيلة معهم 350 مضخة مياه. واستطاعت مصر في الساعة 2:30 بعد عشر دقائق رفع علم مصر على الضفة الشرقية للقناة فوق أرض سيناء. وفي الساعة 2:45 بدأت المجموعة الثانية من المشاة في عبور القناة، ثم توالى عبور الموجات بفاصل 15 دقيقة بين كل موجة وأخرى. بحلول الساعة 3:30 استعادت مصر شرق القناة كله، وبحلول المساء ارتفع علم مصر فوق سيناء، وتم تحطيم معظم نقاط خط بارليف، ورفع العلم المصري فوق سيناء.



السقوط المدوي لحصن الجبن


وسقط بارليف وحصنه، فسارع كبيرهم الذي علمهم الكذب إلى الصحف عشية يوم السادس من أكتوبر معلنًا أن خط بارليف كان أشبه بقطعة من الجبن الجرويير المليئة بالخروم والثقوب.
هل سمع أحدكم عن جبنة جرويير تصمد أمام قنبلة نووية؟ إذا كان المتحدث مجنونًا، فالمستمع عاقل. إما أنكم كنتم تكذبون منذ خلقكم الله على هذه الأرض أو أنكم تعانون من التنافر المعرفي، فلا تعرفون الفرق بين الحصن والجبن.


ودعونا نتساءل: لماذا اختار هذا النوع بالذات من الجبن كي يشبه به حصنه المتهاوي؟ لقد فكرت كثيرًا. كان يمكنه أن يقول قطعة من الجبن ويصمت، فهناك كثير من الجبن السويسري الآخر الذي يحتوي على ثقوب مميزة مثل الإمنتال والأبنزيلر. لكن الجرويير جبن لذيذ وقيمته الغذائية عالية، ويُستخدم في أطباق مشهورة، وله تاريخ عريق في بلد منشأه سويسرا حيث يعود إلى القرن الثاني عشر. كما أنه غالي الثمن، فالرطل منه مثلًا يصل إلى حوالي 30 دولارًا أمريكيًا بسعر اليوم. فربما اختار العدو هذا التشبيه من أجل تعويض الـ500 مليون دولار التي راحت على الأرض.
وقد كان محقًا في قولته التي حاول فيها أن يحفظ ماء وجهه، لأن الثقوب كانت تملأ دومًا النهج المعادي للبشرية الذي اعتمده عدونا في تلك الحرب.


إلا أن الجيش المصري لم يلجأ يومًا لتلك الأساليب اللاإنسانية لإحراز نصر أو لتجنب هزيمة، بل هو دائمًا يسعى للحماية، وعقيدته هي الدفاع عن أرض مصر وسلامة أراضيها. استطاعت مصر العبور وإنهاء كل الأكاذيب المرتبطة بالجيش الذي لا يقهر. انهزم ذلك الجيش هزيمة نكراء وسيظل مهزومًا إلى الأبد، لأن الجيوش التي لا تملك أسسًا أخلاقية لوجودها تدخل التاريخ من باب المجرمين.



درس العبور


ننهي المقال بنكتة كان قد قالها إسحاق رابين بعد حرب يونيو 67: “أحب أن يرقص المصريون على طبولي أنا”. أتمنى أن يكون قد رقص كثيرًا بعد حرب أكتوبر على طبول المصريين.


لم يستغرق تحطيم خط بارليف، الذي كلف العدو 500 مليون دولار من دولارات السبعينات، سوى ست ساعات فحسب. هذه هي قدرة مصر وقدرة الجندي المصري، وهذه رسالة من أبطال أكتوبر سيظل صداها يتردد في وجدان المصريين وفي وجدان أعدائهم على مر التاريخ والعصور، مهما مر من وقت ومهما وقعت من أحداث وحوادث.

المصادر: الصحافة المصرية وكتاب جند السماء.

Facebook Comments