
مقال لمجلة الرؤى مجلة ثقافية أدبية للإبداع والنقد
من الثابت أن التعبير الأدبي البشري عُني بالموسيقى والنغم، وبالتالي منح الشعر أسبقيةً على فن الرواية، لكن الحكي القصصي باعتباره جزءً من التطور العقلي البشري، ملازم لنا منذ وجدنا قبل الشعر بزمن طويل. حيث إننا مرتبطون بالقصص بيولوجيًا ونفسيًا ووجدانيًا وعقليًا بطريقة تجعلنا نستجيب لها للفهم والتعلم والترقي والتسلية. وبالتأكيد فإن فن الرواية كان لاحقًا على فن الشعر من الناحية التاريخية، إلا أنه من الناحية العملية فقد لازمه ولربما سبقه. في الوقت الحالي، تحصد الرواية مواقع أكثر لدى جمهور المتلقين عن الشعر للأسباب التالية:
فن الرواية نفسه يعتبر الفن الأم لفنون أخرى مثل السينما والتلفزيون والمسرح. وكثير من الكتاب يكتب الرواية ويتمنى لها الخلود في اقتباسات مختلفة ووسائط متنوعة. فلدينا في الأدب المكتوب بالإنجليزية رواية (كبرياء وتحامل) Pride and Prejudice لـ”جين أوستن” التي تحولت إلى أفلام سينمائية ومسلسلات تلفزيونية، وتم اقتباسها للمسرح عدة مرات بما فيها مسرحيات موسيقية. ومن أشهر تلك الأعمال الفيلم الذي أنتج عام 2005 مع “كيرا نايتلي”، والمسلسل التليفزيوني الذي أنتجته محطة بي بي سي عام 1995 مع “كولن فيرث”. لدينا أيضا رواية البؤساء Les Misérables المكتوبة بالفرنسية لـ”فيكتور هوجو” والتي اقتبست كأفلام سينمائية عديدة بلغاتٍ مختلفة في فرنسا وفي بلدان أخرى من بينها مصر والولايات المتحدة، بل إنه توجد مسرحية موسيقية مقتبسة عن (البؤساء) تُعرض منذ عقود في لندن ونيويورك. وبالنسبة للرواية المكتوبة بالعربية لدينا أعمال صاحب نوبل “نجيب محفوظ”، والتي تحولت إلى أفلام سينمائية ومسلسلات إذاعية وأيضًا أعمال على المسرح. ومن أبرزها ثلاثيته: (بين القصرين) و(قصر الشوق) و(السكرية). ولا ننسى بطبيعة الحال كتاب (ألف ليلة وليلة)، رغم أنه لا يُعتبر رواية بالمعنى الحديث لتعريف الرواية، لكنه ألهم الخيال الإبداعي في جميع أنحاء العالم لتقديم اقتباسات عن قصصه في الأفلام السينمائية والمسلسلات التليفزيونية ومن بينها أعمال للأطفال، علاوة على العروض المسرحية المتنوعة حول العالم.
يمكن لنا أن نقول أيضًا إن الشعر مرتبط بالأداء وبالموسيقى، وإن بعض الشعراء يقومون بتنظيم أمسيات لإلقاء شعرهم، كثير منها يلقى رواجًا. أنا شخصيًا أحب كثيرًا حضور أمسيات الشعر، لأن متعة سماع الشعر تفوق متعة قراءته من وجهة نظري. لكن من ناحية الكم واهتمام الجماهير، التفوق يكون لفن الرواية في مضمار فنون الأداء. لأن الأمر يتعلق أيضًا بالمنصات والأماكن التي تستقبل مثل تلك الأعمال. وأغلبها معد لاستقبال أعمال تقوم على الرواية مثل خشبات المسارح ودور السينما، والقليل منها ما قد يغامر بأمسيات شعرية أو أمسيات تمزج بين الشعر والموسيقى. ومن بينها أمسيات لطيفة يُطلق عليها Open mic وهي تُقام عادةً في مساحات صغيرة مثل حانة أو مركز ثقافي. وهي لا تقتصر على الشعر، وإنما هي مفتوحة لأصحاب المواهب حسب الموضوع الذي تقترحه الأمسية. وهناك أمسية شعرية (ميكروفون مفتوح) في مدينتي في شهر أكتوبر تحييها ثلاثة من الشاعرات والأمسية ترحب بأي شاعر جديد أو مخضرم يود إلقاء قصيدة على الجمهور.
الرواية قادرة على التنوع والتفرع وقابلة للتجديد والتجريب بشكل يجعلها تصبح مثل العملاق مقارنة بالشعر الذي يُقيد بنماذج أدبية ولغوية معينة. قد يتحرر منها في بعض الأحيان، إلا أنه غالبًا ما يكون ملتزمًا بموسيقى داخلية وخارجية تجعل التجريب فيه محدودًا. أما الرواية، فمساحتها وطبيعتها وتعقيد مكوناتها يسمح لها بالتمدد بلا حدود، واستقبال كل الأجناس والموضوعات بطريقة أكثر مرونة وأكثر قابلية من الشعر. فنجد أن نوعًا مثل أدب الخيال العلمي ينقسم إلى أقسام رئيسية تتفرع منها أقسام أخرى، بل يمكن الجمع بين عدة أقسام. وعلى رأسها الخيال العلمي الصلب، والخيال العلمي الناعم، والدستوبيا، والسايبربانك، والتمازج بين البيولوجيا والتكنولوجيا، وغيرها. صحيح أن الشعر يستطيع أيضًا أن يخوض غمار هذه الأغراض، لكن الشعر المكتوب بالعربية لم يخرج من نطاق الموضوعات التقليدية التي يمكن أن نحصرها في وصف الطبيعة، أو الحنين إلى الماضي، أو البكاء على الأطلال، أو على الحبيب، أو حب الوطن، أو الشعر ذي الصبغة السياسية.
النثر عمومًا يتطلب من كاتبه أن يستغرق فيه مدة طويلة، وبالتالي فهو يُعني بعمله سواء كان رواية أو قصة قصيرة، ويحرره عدة مرات ويقدمه في ثوبٍ جذابٍ للمتلقي. أما الشعر فهو ابن لحظة تتجلى فيها فكرة واحدة يطورها الشاعر بتمكن وبلاغة. وقد يحتاج الشعراء أن يقضوا وقتًا في ضبط دواوينهم. إلا أنه من ناحية الطول، غالبًا ما يود القارئ أن يستثمر وقته وماله في كتاب أكبر، في حين أن ديوان الشاعر يمتاز بالقصر لكثافة تعبيره، فإن الرواية قد تصل إلى حجم آلاف الصفحات وتُطبع في مجلدات عدة لدرجة أن يُطلق عليها (الرواية النهر) أو Le roman-fleuve. ولذلك فإن تسويق رواية أسهل نسبيًا من تسويق ديوان شعر.
الشعر العربي عمومًا ما زال أسير موضوعات تقليدية، أغلبها لا يتضمن مفردات العصر الحديث، مما يجعله نوعًا من الغنائية التي ربما لم يعد إنسان العصر الحديث يحتاج إليها كثيرًا في ظل تطور الأدوات البصرية المتاحة له. فلم يعد محتاجًا لأبياتٍ طويلة من الشعر تصف له البحر والسماء والأرض والجبال والوديان والقفار، لأنه يستطيع زيارة إنستجرام على سبيل المثال ورؤية كل ما يوده، أو شراء تذكرة طيران أو تذكرة قطار وفي عدة ساعات يصل بنفسه إلى المكان المقصود. أما الرواية، فهي تخلق عالمًا خياليًا قد لا يكون حتى موجودًا على الأرض، وبالتالي فهي تحتفظ بطرافتها وقدرتها على الإدهاش أكثر من الشعر.
يملك الروائيون القدرة على تطويع اللغة كيفما شاؤوا، ويستطيعون الدخول والخروج في عدة مستويات منها، بل عدة لهجات، وربما أحيانًا عدة لغات. وقد يستطيع الشاعر استعمال نفس التقنية، لكن سيكون هذا في حالات نادرة. فالرواية مثل شخص حر طليق في برية اللغة، أما الشعر فهو مثل شخص لا يستطيع الخروج من أسر اللغة الشعرية دون استئذان.
الخلاصة أن الفنون الأدبية عمومًا تتعرض لرياح تغيير شديدة في عصرنا الحالي، وهو أمر سيطال الرواية والشعر معًا. إلا أن المقياس الحقيقي سيوضع بين أيدي الكتاب، الروائيين منهم والشعراء على حد سواء. وستكون التجربة الفردية لكل شخص هي المحك، وقدرته على التأقلم والتكيف وامتلاك أدوات حرفته الكتابية والتعلم المستمر هي المقياس الذي سيحكم على قيمة أدبه. كما أن الأدب صناعة دائمة الخضرة، بمعنى أن المنتج الأدبي ليس منتجًا موسميًا. فعلى كل كاتب أن يدرك أن ما يكتبه اليوم سيظل طالما ظلت الكتب في هذا العالم.
نشر المقال على مدونة المجلة هنا.
Facebook Comments