مقال كتبته للمشاركة في مسابقة المقال الأسبوعية لدر نشر القلم 

المجتمعات الطاردة للعقول تنزف أفضل مواردها البشرية يومًا بعد يوم، وتتخلخل تركيبتها الاجتماعية والاقتصادية مما يؤدي إلى ضعف عقلها الجمعي. ولهذه الظاهرة أسباب يمكن فحصها، ونتائج وخيمة يمكن تجنبها.

أسوق هنا أهم ثلاث أسباب لنزيف العقول. أولها هو عدم وضوح مسار الترقي الاجتماعي والوظيفي، وارتباط هذا المسار ارتباطًا شرطيًا برؤوس الأموال الحاكمة، وشبكة العلاقات الأسرية والقبلية والمناطقية بحيث تصبح صناعة القرار في يد غير خبيرة أي تُعطى الأفضلية لأهل الثقة عوض أهل الخبرة. وثاني تلك الأسباب هو غياب الأنظمة الإدارية المحكمة التي تسمح للعقول الماهرة أن تمارس أعمالها بحرفية واقتدار، وأن تطور من المهن التي تمارسها مثل مهن الطب والهندسة والصيدلة والمحاسبة وتلك المرتبطة بالقانون والتكنولوجيا الحديثة. أما السبب الثالث فهو احتقار العلوم الإنسانية مثل الفلسفة والتاريخ والجغرافيا وعلم الاجتماع والدراسات الأدبية والفنية. وهذا يؤدي، بطبيعة الحال، إلى تجفيف منابع الإبداع في المجتمع مما يضعف من بنيته الأساسية، ويغير من سلم أولوياته، ويجعل الحياة داخله غرائزية بالدرجة الأولى لا ترتقي بالنفس البشرية.

تتلخص النتائج الوخيمة في حرمان المجتمع من الخدمات الأساسية رفيعة المستوى، وافتقاره لمقومات التعبير الراقي عن عقله الجمعي، مما يجعله فاقد الثقة في نخبته التقنية والفكرية ويحدث فراغًا في المساحات التي تشغلها تلك النخبة، وبالتالي يدفع آخرين ممن لا يحملون نفس القدر من التعليم والتدريب والمهارة بأن يحتلوا ذلك الفراغ ويتولوا مناصب لا يستحقونها مما قد يؤدي إلى تآكل المجتمع من الداخل.

وعليه فإن ظاهرة هجرة العقول خطيرة وتستلزم الانتباه لها وعدم الاكتفاء بالشكوى منها أو السخرية من أعراضها. وأول طريق العلاج يكون بالتشخيص الصحيح فالظاهرة لها جذور في القيم المؤسسة للعقل الجمعي للمجتمع. وبمراجعة ذلك الفكر في بيئة صحية يمكن اتخاذ أول خطوة في الطريق الصحيح. 

Facebook Comments