ست الستات

ست الستات قصة قصيرة منشورة بجريدة الدستور في 1 سبتمبر 2024

“أنت ست جامدة اوي.”
حاولت لملمة شتات مشاعري المبعثرة على رصيف اللامبالاة. وقف كمارد يهدد سلامي بالهدم والدوس بالأقدام. حاولت تذكر ما أوصلنا إلى هذه النقطة. لم أستطع أن أرحل بذاكرتي لأبعد من اللحظة التي سبقت عبارته الهمجية. حاول تقبيلي. لم أرفض القبلة، رفضت ما تلاها من محاولة غزو حميمي لم أكن مستعدة له. نظرت حولي. كنت في عرينه. وعليّ الآن تدبر أمر خروجي قبل حفل الشواء.

في وقت لاحق للمقابلة ترك لي رسالة على الفيسبوك، مكان لقائنا الأسهل والأقل كلفة:
[أنت فين يا قطة؟]
أيقظت الرسالة داخلي وحشًا يحاول أن يكون متحضرًا، لكنه يموء بغضب من وقت لآخر ويطالب بأن يطل برأسه كي يخمش قليلا
[موجودة. مستنياك تخلص شغل. أنا في البيت.]
والدي يتفرج على برنامج “إبراهيم عيسى”، كانت شقتنا القديمة هي كل ما تبقى لي وله بعد سنوات الصراع مع الأطماع والخلافات والمنافسة على مكان تحت الشمس. خرجت من الحياة في منتصف الثلاثينات بوظيفة متوسطة القيمة والمقام في الصحة، ومعاش والدتي أستاذة الجامعة، وبطاقة رقم قومي مكتوب عليها بشكل فاضح: مطلقة. أقول خرجت من الحياة لأنني قطعت الصفحة كلها بمعارفها وصداقاتها ومصالحها. خرج الزوج من الكتاب كله، وجمعت حياتي وذكرياتي معه وألقيت بها في بئر بلا قرار. وعدت إلى بيت الأسرة القديم في الركن المنسي من المدينة الضخمة، أدير مخازن أدوية وأبتكر في طرق إدارتها كوسيلتي الآخيرة لزرع فسيلة قبل نهاية العالم، وأقضي أمسياتي في الاعتناء بأبي الطيب والقراءة الكثيرة التي أنقذتني من الجنون.
الشاشة تومض بدائرة خضراء مستديرة. ملأت الغلاية بالماء قبل قراءة رده.
[عايزك. لازم. الليلة.]
أمر ذكوري يحرك مياهًا راكدة في نهر يحاول المرور بمرونة وسط صخور وعرة. “وائل” خشن، عملي، شبق، مدمر. لم يكن فيه ما يمكن أن أبرر به وقوعي في حبائله. لا أجرؤ على الكلام عن الحب في حالتي هذه. لا أجرؤ حتى على الاعتراف بذلك الشعور الإجرامي الذي يحيل الدنيا في نظري قانية بلون الدم. شعور يدفعني إلى هواجس وخيالات لم أعرفها من قبل. شعور لا يشبه شيئًا مما قاله “يونج” عن الحب ولا طاقته. شعور يدفع بي إلى جحيم شبق أعيشه في خيالي، ولا أجرؤ على تمني حدوثه.
ثلاث كلمات تقذف بي إلى الظلام. أقود السيارة وأنا لا أحسب مقدار الاتساق بين كذباتي الصغيرة المتضفرة. أقودها إليه وجسدي يتلوى غضبًا. أفكر في الصباح حين يأتي. كيف سأواجه زميلاتي وكل من يرى فيّ ابنة الناس الطيبين؟
يومض هاتفي بإشعار. أسقط نظري إليه فأرى بداية رسالته
[مستنيكي. أي تأخير هيكون له عقاب.]
فكرت في مد يدي للمس المربع المضيء. لكن يداي لم تتركا المقود. لا بد أن أصل إليه. كان صوت جسدي.

سمعت والدي يهلل: “عفارم عليك يا إبراهيم. طول عمرك راجل.”
كتب لي:
[بقولك ايه؟ أنا هكون على ناصية شارعك بعد نص ساعة بالضبط. هرن لك تنزلي على طول.]
لم تكن المرة الأولى التي يصدر لي فيها هذا النوع من الأوامر. بل كنت أدفعه دفعًا إليها. كنت أريد أن أتحرر من استقلاليتي وحريتي المتسعة وسع كون خال من الحرارة. أظن أن شيئًا ما فيّ كان يشي بأنني فريسة مثالية. صحيح أن ردي عليه كان بالرفض:
[مستحيل. الوقت متأخر ومش هعرف أقول ايه لبابا.]
“وائل” كان متفردًا في سلطويته. يعلم أنه كذئب عليه أن يكون صبورًا مع فريسة عنيدة. لم أقع في غرامه بالمعنى الذي تلقننا إياه الأغاني والأفلام الهادفة، على الأقل، كنت من الكافرين بهذا الحب. ولا أظن أن “وائل” يعرف عنه أكثر مما يعرف عن اللغة الصينية. لماذا كنا نسعى إلى اصطدام كونينا إذن؟ لماذا كنا نسرع الخطى نحو تواصل دامٍ سأخرج منه أشلاء وسينتشي منه هو بطعم الدماء الكثيرة التي ستسيل؟ أعتقد أنه الدور المحتوم للذئب وفريسته ليس إلا.
[الدنيا بتمطر وأنا مبحبش المطر. وخروجي دلوقت مينفعش خالص. كمان عندي شغل بكرة الساعة تمانية.]
الرد لم يكن أكثر من محاولة يائسة مني لتأجيل لحظة الالتهام.
[هاتي شمسية. قولي لبابا إنك نازلة تجيبي حاجة ضروري أو بتزوري واحدة صاحبتك بتموت. مش هأخرك. هترجعي زي سندريلا قبل منتصف الليل.]
ونزلت في المطر. دخلت عرينه بقدمي. شعرت بالرضا عن نفسي التي تقاوم رتابة الحياة بشجاعة لم تعتدها من قبل. السيارة مسرعة تطير، تحلق، تتحدى زخات المطر أن تعيقها عن التحليق في سماوات مظلمة. كان وسيمًا حليق الرأس منتعشًا بمغامرته الليلية. يد على المقود ويد على فخدي. يوقظ حممًا سائلة من شهوة نامت لسنوات بل قُتلت على فراش الزوجية الذي كان ملوثًا ببقايا آدمية وسوائل حيوية غريبة عن البيت. لم أسمح لنفسي يومًا وأنا زوجة أن أستمتع في فراش رجل خائن. لم أسمح لنفسي بالسعادة. كنت أعاقبها على حبسي داخل جسد يستبيحه رجل خائن كنت أعشق رائحته وأذوب هيامًا بين ذراعيه بمجرد النظر إليه. رجل أسلمته روحي مغلفة بجسد نقي، فباعها على عتبات الرذيلة واستباح نقاء جسدي وأهدره في فراش ملوث.
وماذا عن “وائل”؟ هل يفضُل زوجي في قيم العشق والهوى؟ أظن أن “وائل” هو نفس الرجل، لكنه يلعب دورًا مغايرًا. فهو لا يعد بحب سرمدي ولا وفاء خالد. بل يعد بلحظة متعة مكثفة مطهية جيدًا ويعد أن تكون لذيذة ولكنه لا يدري شيئا عن إمكانية هضمها. “وائل” كان واضحا. “أنت مزة جامدة اوي”. وأيضا. “حرام عليّ لو سبتك كدة.” لكنه لم يكن مبتذلًا. كان فقط ذكرًا بدائيًا. وأنا كنت أحتاج بشدة للاتحاد مع بدائيتي.
يد على المقود ويد حول منطقتي الملتهبة. حرص على ألا يمسها لا بردًا ولا سلامًا ولا نيران حارقة. كان يعدني للبركان الأعظم. وكنت أحب لعبته. منخرطة فيها حتى الثمالة. أتدلل. “مش هقدر أتأخر كتير. أنا مفروض بجيب ورقة مهمة من واحدة زميلتي مش هتقدر تروح الشغل بكرة.” يبتسم في مراوغة. لا أظن أن الليلة ستكون هي ليلتنا الأولى. ابتسامته تقول أنا صبور. لكن لا تعتمدي على صبري طويلًا. هو يريد غزوًا تُسفك فيه الدماء، وهو مسعاي كذلك.
تحيطني أصابعه بسياج من لهب، توقظ مسامي، وتحيلني إلى قطع ذهبية تتلألأ تحت أنواره الباهرة. أنطق اسمه بكل النغمات. أشيد له درعًا من عواطف جياشة يحيط بمقعدينا ويفصل جسدينا عن زجاج السيارة والمطر الغزير والعمل المتربص بي في الصباح وتقيحات جرح ماض وضحكة لم تكتمل وشهوة خرجت من القمقم.
تراقصت يده حول جسدي. تمس وتمسد وتداعب وتمحو تاريخي. لم يكن متعجلًا وكأن الليل ليس لصًا. وامتدت يدي هي الأخرى إلى أسفل رقبته. تترك بصمتها على منطقة تحرمها على كل الإناث. كنت أضغط وأخمش بأظافري. كنت أقبِّل بلا استئذان.
عندما انفتح الباب وجدت نفسي في الداخل بأسرع مما توقعت. كنت خائفة. كل ما فعلته كي أصل إليه. المرور عبر بوابات الأمان. هو في حصنه وأنا لا أملك سوى الخضوع. وأريده. أخذني بين ذراعيه. لم أشعر سوى بفمه يتحسس وجهي. كأنه يعيد التعرف عليه. ذراعاي أحاطتا به كسوار. وقلبي دفع بضخات دم كان حبيسًا إلى كل كياني.
دون سؤال عما أرغب صب لي مما يشرب. هززت رأسي. ضحك مظهرًا أسنانه القوية ولمع لسانه للحظة قبل أن يتذوقني ثانية. بدأ يحدثني. يسألني عن تفاصيل صغيرة. يجتهد عقلي في العثور على الإجابة الصحيحة. وكأن الإجابة الخطأ ستحرمني منه. الكلام بيننا يلضم وثاقي به. هذا ليس الغد. هذا هو اليوم فحسب. الليلة فحسب. وعندما تنتهي سننتهي معها. لذلك تكلمت دون تحفظ. يبتسم في معرفة. يعلم كم أنا عند أطراف أصابعه.

في طريق العودة، كان كل شيء خاملا هامدا كشأن لحظات الجنون بعد انتهائها وانفتاح النظر على ما هو أمامنا. لن أعبيء جعبة الندم بعد، سأتركها مهملة في الزاوية، فأنا امراة ولست حجرا. ما كنت أعرف قواعد هذه اللعبة. لم يسلمنا أحد كتيب التعليمات. لماذا أتجاهل نشوة الصيد؟ وكيف لي أن أفعل والفريسة تحت قدمي وأنا ألتقط معها صورة النصر؟ جفوني ثقيلة، أشعر بهدوء الواثق من نفسه.
كتب لي بعد عودتي إلى البيت
[معنتش أقدر أعيش من غيرك]
تركت الهاتف مخنوقا بقربي على الفراش، يومض وحده في عتمة الليل. وعندما شقشق الصبح ذابت كل الذكريات وبقي طعمها في فمي. تابعت رنات الهاتف والرسائل المتعاقبة في صمت، كقائد يطمأن على نتيجة المعركة. غريب هذا الشعور لم أختبره من قبل. بل لم أكن أظنني قادرة عليه. انتبهت لكل تفاصيل العمل ذلك اليوم واليوم الذي بعده وكل الأيام التالية. جرعة ثقة تسري في شراييني. أشعر بأنفاسي متحررة قابضة على مقود حياتي.
يسألني أبي: “لم لم تعودي تخرجين مع صديقتك؟”
أهز كتفي وأنا أتخذ مقدي المفضل بجوار المدفأة الديكور وبيدي رواية جديدة لكاتب مقدم للمحاكمة بسبب عبارات له تمس الآداب العامة.
“النهار قصير. وبعد الشغل بقيت بكسل.”
أغلق الهاتف وأبدأ في قراءة الكتاب بمجرد انشغال أبي بالتلفزيون.
أقابله في الطريق. نقف قرب سور قديم نتبادل حديثًا سريعًا. يسألني “محتاجة وقت للتفكير في ايه؟ أنا جاهز.” أحدق في عينيه القلقتين. أقترب منه كي يطمأن. أتردد في أن أعبر عن طمأنتي له بالكلمات. هناك شرخ ما لم تحدثه علاقتنا ولا صداقتنا المغلفة بحنان الحب. إنه شرخ قديم موروث أنتج قشرة صلبة تجهز على قابليتي للانثناء. “ربنا يسهل.” كان أفضل عبارة مفتوحة أنهيت بها حديثنا.
أدركت أن علاقتنا تحتضر. وبدا لي أن عليّ إحضار الطبيب أو رجل الدين ليتلو عليها الصلوات الأخيرة كي نحملها إلى مثواها الأخير. لكن اللعبة الجيدة تستمر. رسالة أو مكالمة قصيرة، مشوار لا يصل إلى منتهاه، “أنت أول ست مش نكدية أعرفها ف حياتي.” يقولها وكأنه يقلدني وسام الشرف. يحيطني بذراعه أتنشق عبيره وأتركه يعبر لي عن حبه.
الربيع بزعابيبه يحمل صوت النذير. يخيرني بين طريقين. نحضر أنا وأبي مناسبة عائلية. نبدو كمتقاعدين اعتزلا العالم. يثني الأقارب على رشاقتي ويلمحون لاقترابي من النهاية وكأن الأنوثة رداء يسقط عنا ونحن أحياء. يدافع عني أبي “بنتي لسة في عزها. وكله قسمة ونصيب.” لا أهتم بما يقال حولي، أنقل إليهم خبر ترقيتي. يحسبون السنوات بالعمر الافتراضي للأطفال الذين لم أنجبهم. “وائل” لديه ثلاثة أطفال من زواج سابق لا يراهم إلا في المناسبات. أكتب إليه
[لازم أشوفك بكرة ضروري.]
يومض الهاتف بالرد بعدها بثوانٍ
[أي وقت. كلميني وهجيلك…]
ثم
[نتقابل فين؟]

تمت

Facebook Comments