يتطلب التجريب كسر القواعد المرعية في الأدب، وليس البناء عليها مع زحزحتها قليلًا فحسب. فالأدب لديه القدرة الذاتية على التطور بشكل تلقائي بفضل عوامل داخلية كاللغة ومتطلبات النشر، وخارجية كتبدل أحوال بيئة الكتابة، وعامل الزمن، والتغييرات السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وتأثر المناخ الثقافي بالبيئة المحيطة به محليًا ودوليًا. إلا أننا لا نستطيع أن نطلق على هذا التطور العضوي تجريبًا حتى مع وجود هامش للتجريب.
حيث أن التجريب يتطلب تغييرًا كبيرًا يشهده المتلقي، فيُحدث لديه ردَّة فعل تتراوح بين الرفض المطلق والإعجاب المطلق، مثلما حدث مع تيار الرواية الجديدة في فرنسا الذي لقي نقدًا لاذعًا وترحيبًا حماسيًا في آن واحد. فقد قام بعض الأدباء مثل “آلان روب جرييه” و”ناتالي ساروت” بكسر القواعد السردية التقليدية والاعتماد على رؤى بصرية معقدة وعوالم داخلية تعنى بالتحليل النفسي العميق للشخصيات. بل إن زلزال الرواية الجديدة امتد عبر الأطلنطي إلى الولايات المتحدة وصار له مريدون مثل الأديب الأمريكي “وليام بوروز” الذي تمرد على الرواية الخطية وفكك النص وأعاد تركيبه في روايته (الغداء العاري) عام 1959. إن التجريب هنا نجح وصار تيارًا أدبيًا سار على هديه المبدعون وقدَّره القراء. لكن حظ التجريب في الأدب لا يكون عظيمًا في كل الأحوال، وأغلب الأعمال التجريبية عاشت وماتت في مربع التجريب.
أما في الأدب المكتوب بالعربية، فليس لدينا هذا القدر من التجريب وإنما لدينا تطوير داخل حدود معينة، مع العلم أن هناك نماذج للتجريب لا يمكن إغفالها مثل أعمال “إدوار الخراط” في الرواية و”أدونيس” في القصيدة النثرية.
إن تحدي القواعد غالبًا ما يُقابَل بالرفض والاستهزاء لأن هناك وصاية غير معلنة على الإبداع. وهذا لا يمنع من أن الساحة مفتوحة أمام المبدعين بفضل الإنترنت وسهولة النشر كي يجربوا كما يشاؤون، والمهم ألا يخافوا من ألسنة النقد. ففي النهاية، تكمن القيمة العليا في أن يُعبّر المبدع عن نفسه بالطريقة التي يريد.
Facebook Comments