
يعتقد بعض الكتاب أن صياغة الأفكار أهم من سلامة الكتابة وأن قواعد الإملاء لا تهم كثيراً طالما أن ما يهم القارئ في المقام الأول هو التعرف على الفكرة. أنا أرى أن هذا الرأي يجانبه الصواب للأسباب التالية:
١
أولاً، الإملاء ليس مجرد قانون جائر يُفرض على من ابتلاهم الله بعبء إجادة قواعد اللغة التي يكتبون بها، بل هو رموز يستطيع أي شخص تمييزها كي يفهم الجميع نفس الكلمة بمعنى واحد، وهو بمثابة العقد الذي اتفق الجميع على الالتزام به. بمعنى أن قائد السيارة عندما يرى الإشارة حمراء، فلن يساوره الشك في أن عليه إيقاف سيارته. بالمثل عندما يرى واو الجماعة دخلت على الفعل المضارع فلن يساوره شك فيمن قام بذلك الفعل.
ومن أكثر أمثلة الأخطاء الإملائية تشويهاً للمعاني هو الخلط بين الهاء والتاء المربوطة، وهما حرفان، والله العظيم، مختلفان، حتى وإن تشابها صوتياً!
فمثلاً، “رحمة”، كقولنا “خلي في قلبك شوية رحمة”، هي الاسم الدال على العطف والغفران. أما “رحمه” فتعني أن هناك شخص قد طبق هذه المشاعر وغفر لشخص آخر والاثنان مفرد مذكر. كقولك، “غضب المدير من مرؤوسه، لكنه رحمه ولم يوقع عليه عقاباً.”
لذلك فإن استبدلنا الهاء مكان التاء المربوطة أو العكس نكون قد أخلينا بنظام الكتابة، وبالتالي نظام الفهم.
٢
التشوه يصيب اللغة فينتقص من جمالها. نحن البشر ابتكرنا اللغات كطريقة من طرق التواصل بالأساس، لكن، ولأننا كائنات مبدعة، حولناها لأداة للإبداع. ولذلك فإن الناحية الجمالية للغة المكتوبة تتمتع بأهمية كبيرة. إن أنكرناها أو حرمنا أحداً منها، ظلمنا اللغة التي نستعملها. فنكون مثل نجار يريد أن يصنع ترابيزة وعليه أن ينشئها من مجموعة قطع متناسقة، فإن اختلت قياساته في عمل تلك القطع، عجز عن صنع الترابيزة بطريقة صحيحة.
٣
يقول البعض مش مهم لأن أدوات التدقيق متوفرة. ويمكننا الاعتماد على التكنولوجيا في ذلك. أقول له إن التكنولوجيا بالتأكيد تستطيع أداء مهمة مثل هذه، ولو أن اللغة العربية لا تملك ما تملكه اللغات الأخرى بعد. ولكن مهاراتك ككاتب تعتمد في الأساس على ما تجيده أنت اعتمادا على عقلك وأفكارك، لا على أداة خارجية. كما أن المستقبل، كما أراه، في هذه الناحية، سيتم فيه التمييز بين قدرات البشر بتقسيمهم إلى “عمال مهرة” و”مستخدمين مهرة”. وستكون للفئة الأولى الحظوة، لأنها، وكما أتوقع، ستكون صاحبة المهارات المعقدة التي تتطلب وقتا طويلاً في التعليم والتدريب، كما أنها ستكون الأقل عدداً.
٤
وأخيراً، لا يجب إغفال فضيلة إتقان العمل. وهي تشمل أي عمل وكل عمل بما فيه الكتابة. الإملاء الجيد يدل على الاعتناء بالنص، والرغبة في تقديمه في أبهى صورة ممكنة، والحرص على إيضاح المعاني وتوصيل الرسالة بلا غموض. وهي ميزة تدل على شخصية صاحبها وطريقة أدائه للمهام التي يتصدى لها. بل إن مهارات الكتابة شرط أساسي لكثير من الوظائف بغض النظر عما إذا كانت الوظيفة تتعلق بالكتابة بشكل رئيسي أم لا. وإتقان الكتابة يدل على أن الكاتب قد صرف وقتاً وجهداً للتعلم وممارسة الكتابة، وأنه ثابر على مهمة تتطلب تنظيماً للوقت وجدية في ممارسة تلك الحرفة.
#نادية_توفيق
Photo by Mona Termos: https://www.pexels.com/photo/white-papers-on-table-with-written-calligraphy-art-3139298/
Facebook Comments