الحل اللي بتلجأ إليه دولتنا لما تواجه أزمة سياسية هو الحل الأمني. والحل ده مجرد مسكن أصلا ولا يمكنه الوصول إلى جذر المشكلة لاجتثاثها. مشكلة اللاجئين ستُترك للشرطة كي تنوحل فيها، وهي أصلا لديها ملفات أهم، وليس من العدل استنزاف مواردها ومجهودها للسيطرة على وضع من شبه المستحيل السيطرة عليه.

لمن لا يعرف، كثير من اللاجئين لا يتحدثون العربية أو لا يتحدثون بلهجة مفهومة للمصريين. وكثير منهم له عادات يومية لم يألفها المصريون. وهم في الغالب ليس لديهم انفتاح على الثقافة المصرية. فلا يمكن أن تعتبره سائحاً أو رحالة أو حتى وافداً إلى مصر بغرض الدراسة. لذلك فإن كل من يظن أن هناك نهضة اقتصادية مرتبطة بوجود هؤلاء اللاجئين على اعتبار انهم يشغلون وظائف أو انهم اصحاب مشاريع هو على خطأ تماماً.

وربما يقارن بعض الناس وجود هؤلاء اللاجئين بوجود العمالة الوافدة مثلاً في دول الخليج. الفرق هنا هو فرق السماء عن الأرض، فرق شاسع جداً، بداية، العمالة الوافدة، سواء في الخليج أو في أي دولة أخرى تستقدم عمالة أجنبية إليها، تتم بناء على قوانين ولوائح محددة. وأهم من ذلك أنها تتم بناء على احتياجات سوق العمل في تلك البلاد، وخاصة فيما يتعلق بالمهارات احترافية وتقنية وفنية وفكرية معينة. كما أن هذه الدول تختار من بين جنسيات مختلفة وليس جنسيات معينة مفروضة عليها، كما في حالة اللجوء. ويشمل الاختيار أيضاً النوع والسن. وتطبق الدول شروطاً معينة لاستقدام الزوج أو الزوجة والأولاد. كما يخضع الوافد العامل لأي شروط قد تتطلبها الوظيفة مثل الإجازات والتنقلات والسكن وما إلى ذلك. وهذا كله لا يتوفر في حالة اللاجئين حيث يدخلون إليك أفرادا وأسرا بشكل عشوائي. ويتنقلون دون ضوابط ويسمح لهم بالتكتل في أحياء بعينها، كما يحدث حالياً في مصر.

وتكون للعمالة الوافدة من أصحاب نفس البلد في المهجر جاليات تقوم على شؤون أفرادها، وتقدم لهم الدعم المعنوي، وتخلق لهم جواً اجتماعياً قريباً من بيئتهم الأصلية. يتم كل ذلك بشكل قانوني، والأهم من ذلك أنه يتم بشكل تدريجي، بحيث تجد ان دولة مثلاً مثل الإمارات تشكل العمالة بها حوالي 86٪ من عدد السكان لديها سياسات محددة وصارمة خاصة بالوافدين، وتشمل تلك السياسات، عدا عن طبيعة الأعمال التي يقومون بها، أنواع الإقامة التي يحصلون عليها ومدتها وشروط وطرق تجديدها، وحقوقهم فيما يتعلق بالخدمات التي تقدمها الدولة، وأيضاً الحصول على الجنسية والتملك وما إلى ذلك. كل هذا لا يتوفر في حال اللاجئين، بل يستحيل توفره بسبب طريقة دخولهم للبلاد غير المنظمة وخاصة إذا حدث وأن فتحت لهم البلد المستقبل حدودها وتساهلت في تدقيق أوراقهم كما حدث عندما اشتعلت الحرب في السودان برعاية خليجية كما ذكرت بعض التقارير الصحفية!

«حميدتي» يجري مباحثات في ابوظبي مع نائب رئيس الوزراء الإماراتي

الأهم في هذا الموضوع ان استقدام العمالة الأجنبية يتم في جو طبيعي تسير فيه الأمور سيرها المعتاد. أما في حالة الحروب فيختلف الأمر كلياً، فالأمور لا تسير سيرها الطبيعي والأشخاص الذين يعبرون الحدود إلى البلد المضيف ليسوا هم نفس نوعية الأشخاص التي من الممكن أن تدخل إلى تلك البلاد في الظروف العادية. وعلينا أن ننتبه إلى أمر ما، هو أن دول الخليج وعلى رأسها السعودية والإمارات التي انخرطت بشكل شبه مباشر في كل مشاكل الدول التي نزح ساكنيها بسبب الحروب، لم تستقبل منهم أي أعداد من اللاجئين، سوى من قد يكون قد تواجد على أرضها بشكل أو بآخر. ربما نتساءل لماذا لا تستقبل دول الخليج الغنية تلك الأعداد الكبيرة من اللاجئين؟ الإجابة ببساطة لأنها تعرف تماماً أن ذلك الاستقبال سيكلفها غالياً. وبالتالي تتصرف دول الخليج بمنتهى الأريحية والتصميم الذي لا يحيد عن الهدف في موضوع اللاجئين. ولا يشغل بالهم كثيراً مفوضية هنا أو مفوضية هناك.

https://www.syria.tv/%D9%85%D8%A7-%D8%B3%D8%A8%D8%A8-%D8%A5%D9%8A%D9%82%D8%A7%D9%81-%D9%85%D9%86%D8%AD-%D9%81%D9%8A%D8%B2-%D8%A7%D9%84%D8%A5%D9%85%D8%A7%D8%B1%D8%A7%D8%AA-%D9%84%D9%84%D8%B3%D9%88%D8%B1%D9%8A%D9%8A%D9%86%D8%9F

السؤال الذي يهمنا هو لماذا تستقبل مصر كل هؤلاء اللاجئين وبكل هذا الترحاب أو على الأقل دون أن تعترض أو تبدي مقاومة أو تتفاوض على العدد الذي يدخل عليها؟ لن أستطيع الإجابة عن هذا السؤال، لأنني، والحمد لله، خارج إطار صناعة القرار في مصر، ولكن أستطيع أن أقرأ المشهد بشكل أو بآخر. مشكلة اللاجئين في مصر لم تبدأ اليوم، لكنها تفاقمت اليوم. وهذا المشهد كان مرشحاً لهذا التفاقم منذ بداية الألفية في عهد الرئيس مبارك. في ذلك الوقت تُركت المسألة للزمن وللقدر. لم يتدخل أي أحد فيها لا بالطيب ولا بالرضي. وربما ما ظهر لنا على السطح هي مشكلة الاعتصام بتاع 2005 عندما تجمع عدة آلاف من اللاجئين السودانيين في ميدان مصطفى محمود لمدة ثلاثة أشهر مطالبين بأن تسمح لهم السفارات والقنصليات بالحصول على تأشيرات للهجرة إلى دولها. ولم يكن أمام الدولة المصرية لمواجهة هذا الأمر سوى تصدير الشرطة في الواجهة. وهو تصرف، مع الأسف، يضع الشرطة دائماً في مواقف تلعب فيها دور العصا الغليظة، مما يضعها في مواجهات مع الناس هي في غنى عنها.

ربما نتذكر جميعا أن السنوات الأخيرة في عهد مبارك واجهت فيها الشرطة المصرية انتقادات كبيرة. وبطبيعة الحال، جميعنا يعرف أن الشرارة الأولى التي انطلقت في 25 يناير كانت يوم عيد الشرطة. وكان التاريخ مقصوداً لذاته لتوجيه رسالة مفادها أن الشرطة المصرية يتم استخدامها لحل المشكلات السياسية، أي أنه يتم استخدامها لمعالجة الأمور معالجة وقتية، وترحيل المشكلة إلى وقت آخر دون التطرق إلى سبب المشكلة الأساسي. لقد مرت الشرطة بما مرت به من فترة انكسار عصيبة تلاها فترة تحديث وتغيير في مناهجها وطرقها وتطوير لأدواتها. وشمل هذا التطوير طرق تعاطي الشرطة مع الجمهور ويمكننا أن نلمس ذلك من خلال الخطاب الذي توجهه الشرطة على صفحات التواصل الاجتماعي إلى عموم المصريين.

اليوم يتم تكرار نفس النهج، أي تصدير الحل الامني كمسكن لوضع متأزم في الواقع اليومي. ونحن نرى كم هذا التأزم في منشورات وتغريدات المصريين من مختلف محافظات ومناطق مصر يشتكون من التعرض لمضايقات من السكارى السودانيين والأفارقة.

الشكوى من السلوكيات غير المنضبطة في الشارع التي يلجا اليها بعض أو كثير من النازحين من السودان ومن أفريقيا من مظاهر سكر وشرب مخدرات وضوضاء وتجمعات عنيفة اصبحت مظهراً يراه المصري في كل مكان يتواجد فيه هؤلاء. موضوع شرب الخمر أو الاسراف في شرب الخمر كنت قد لمسته بنفسي في بعض أفراد الجالية السودانية في الخارج. وأظن أن الأمر مرده إلى الشعور بالعجز وإلى فقدان الهدف في الحياة. وهي أمور كلها من العوارض الجانبية التي تتسبب فيها الحروب الأهلية. لا يمكننا أن نتخيل أن شعباً تعرضت أرضه للتقسيم، وشهد مذابح تُرتكب في بعض مناطقه، أنه سينجو من هذا من ناحيه الصحة العقلية والعلاقات الاجتماعية، ونحن كبلد مستقبل لهؤلاء سنعاني من هذا الجانب لديهم.

https://www.bbc.com/arabic/middleeast/2010/04/100429_sudan_date_gin_brewer_tc2

هم في كل مكان. احلال واستبدال للمصريين وضمن منهج جهجهوني، وأحيانا يبدو مقصودا، توزيعهم جغرافيا في كل مكان:

وأحياناً لا يكون تدخل الشرطة سريعاً أو متاحاً، فتحل محلها جهة أخرى. كما في هذا الحدث في أسوان التي تتعرض لما يشبه الاحتلال من الجنوب، قامت قبيلة العبابدة بالتدخل لحل المشكلة في موقف يدل إن كان بالفعل يحمد للقبيلة تدخلها لحماية أرضها إلا أنه يدل على ضعف قبضة الدولة خاصة في منطقة حدودية ملتهبة مثل أسوان والنوبة.

وأحياناً تتدخل السلطات المحلية بنجاح كي تحل المشكلة كما في هذه القضية:

لن تستطيع وضع عسكري على كل لاجيء. ها هم السودانيون يستعملون السلاح علناً على كورنيش أسوان

https://fb.watch/kWkGRMjECQ/?mibextid=YCRy0i

اللجوء صار مشكلة دولية تنوء بحملها الدول. وفي رأيي أنه ممنهج وليس عشوائياً على مستوى صانعي القرار. لكن، ومع الأسف، يترك الشعب في مواجهة الشعب المتمثل في الشرطة مثلما الحال هنا في فرنسا:

وأخيرا، إن المُسّكن الأمني لن يحل الداء. وأول طريق الشفاء يكون دائما بتحديد الداء وصرف الدواء. ولعلنا نفعل ذلك قبل فوات الأوان.

مصدر صورة حميدتي: https://sudantribune.net/article271211/

Facebook Comments