السرقة هي السرقة، سواء أكانت فنية أو أدبية أو علمية أو سرقة شيء. كلها فعل قبيح ومؤثم. ممكن يكون فيه ظروف تخفيفية أو تفسيرية، مثل سرقة الطعام بسبب الجوع لكن مهما كانت الظروف فلن يجعل هذا من السرقة عملاً مقبولاً.
منذ عام مضى أثيرت قضية الأعمال الفنية المسروقة في محطة مترو كلية البنات بالقاهرة، والتي قامت بها شخصية تدعى “غادة والي”، حيث تطابقت هذه الجداريات مع أربع لوحات للفنان الروسي “جورجي كوراسوف” ولم تكتفي بهذا فحسب، بل أصبغت على الصور صبغة إفريقية سوداء تبتعد بها عن مصر تماماً، وتدعم بها أفكار المركزية الإفريقية.
ولمن لا يعلم عن هذه الحركة، هي حركهة أكاديمية فنية شعبوية تستهدف الحضارة المصرية والتاريخ المصري. وتدعي أن السكان الأصليين لمصر هم من الزنوج من جنوب الصحراء الكبرى، وأن المصريين الحاليين ليسوا هم أصحاب الأرض، بل هم أحفاد الغزاة العرب. أعلم أن هذه الفكرة تبدو أسخف من أن يتم الرد عليها، لكن، مع الأسف، العمل الذي قدمته “غادة والي” كي تتزين به جدران محطة المترو في العاصمة المصرية، والذي كان من المفترض أن يعبر عن الحضارة المصرية القديمة انتهى به الأمر إلى أن يعبر عن فكرة معادية لتلك الحضارة.
مع الأسف انتهت الضجة المرتبطة بهذه السرقة الفنية على لا شيء، مجرد إثارة فضيحة للسيدة “غادة والي” التي يبدو أنها لم تتعلم الدرس جيداً وفوجئنا مرة أخرى أنها ارتكبت نفس الفعل، أي السرقة الفنية، ومن نفس الفنان، أي “كوراسوف”، بأثر رجعي، وذلك في إعلان لشركة بيبسي يعود إلى 2018، ويبدو أن الاتهام بالسرقة طال أيضاً تصميم الملصق الدعائي لنفس الشركة في السودان. حيث تطابق أحد تصميماتها مع لوحة للفنان الروسي تحت اسم “ملكة الشطرنج”.
وعندما واجهها عمرو أديب في لقاء تلفزيوني كي تدافع عن نفسها لم تستطع سوى أن تدعي أنها هي والفنان استلهما عمليهما من مصدر واحد. وتساءلت لم قد يلجأ “كوراسوف” إلى القضاء الأمريكي في نيويورك وليس القضاء المصري. واتهمته بأنه يحاول “سرقة” خطوط الآثار المصرية وأنه يحاول اختراق السوق المصري عن طريق الزج باسمها في هذه القضية. وهي حجج حاولت بها “والي” الابتعاد عن لب القضية وهو التشابه بين العملين، وكيل اتهامات مماثلة للفنان الروسي، لكنها مجرد ادعاءات لا سند لها، وإلا فنحن نحتاج منها إلى اثباتات لتطور الفكرة من خطوط عامة إلى تصميم متكامل. فأنا، على سبيل المثال، ككاتبة، رغم أنني أكتب قصصي ومقالاتي مباشرة على الأجهزة، إلا أنه يمكن، مثلا، استعادة أو إثبات عدد مرات تحرير الملف وتواريخ ذلك التحرير. وبالنسبة إلى مشاريع الكتابة الكبيرة مثل الروايات، عادة ما أحتفظ بنسخ مبكرة من القصة، تخوفا من فقد الملفات وأيضا لضمان العودة إلى ما كان عليه النص في حال أن حذفت جزءًا منه ثم غيرت رأيي وأردت أن أضيفه مرة ثانية.
والسؤال المهم هنا هل هذه السيدة التي تسمي نفسها فنانة عاجزة عن أن ترسم لها رسمة توحد بيها ربنا؟ بل هل هي عاجزة على أن تستاجر فنانين من الباطن كي يصمموا لها ما عجزت هي عن تصميمه؟ حبكت السرقة ومرتين وليه أصلاً؟
وهذا يحيلنا إلى المسالة الأخلاقية الخاصة بالسرقة. عادة ما يشعر الناس بالاشمئزاز من الذي يتم القبض عليه مثلا وهو يحاول سرقة شقة أو من يحاول سرقة شخص في الطريق، ولكن لا نشعر بنفس القدر من الاشمئزاز عندما تكون السرقة من بعيد، سرقة فنية لم تتلوث فيها الأيدي بشكل مباشر. ولا أدري أهو بسبب أن السارق/ة في تلك الحاله يتمتع بمكانة ما في المجتمع (السيدة “والي” ذكرت تحديداً أن الاتهامات الموجهة لها كانت بسبب موقف أسرتها من الإخوان) أم لأن السرقة ليست سرقة لشيء له وجود فيزيقي، رغم ان اللوحات في تلك الحاله لها وجود فيزيقي، لكن السرقة لم تكن للوحة نفسها لكن للتصميم، للفكرة، لعصارة جهد الفنان الآخر، الفنان الروسي الذي سرقت منه “غادة والي” التصاميم بتاعتها. وقد اتهمته هو بالسرقة كحيلة دفاعية، أي كلمته مقابل كلمتها. وعلينا تكذيب أعيننا التي ترينا حجم التطابق الذي يكاد يكون كاملا، لا خط ناقص ولا خط زائد، بين تصميمها وتصميم “كوراسوف” الذي يسبق تصميمها تاريخياً (2015).
هذا الموضوع له أهمية كبيرة لأننا معتادين في ثقافتنا عدم احترام الملكية الفكرية لأي أحد ولأي منتج أدبي أو فني. وصحيح أن الإنتاج والإبداع الفني والأدبي هو ملك للبشرية وملك لمتلقيه بطريقة أو بأخرى، لكنه في النهاية منتج يخضع لقواعد الصناعة والسوق. وبالعكس، لدينا طرق كثيرة للحصول والاستمتاع بالفن والأدب، كثير منها يكاد يكون مجانياً. وليس معنى ذلك الاعتداء على حقوق الآخرين. بالنسبه للمبدعين عندنا مساحة كبيرة اسمها الإلهام والاستلهام. واعتقد أنه بالنسبة للفنانين التشكيليين، فهم يتعلمون عن طريق التقليد أي أنهم يدرسون اللوحات والتصاميم المشهورة ويتعلمون منها. وهذا متاح ومشروع لأسباب تعليمية وتدريبية ومن أجل أيضا أن تنبني الإبداعات الجديدة على ما سبقها، ولكي يتم الاستفادة منها. لكن ان يقوم المبدع أو الفنان أو من يدعي أنه كذلك بسرقة جهد غيره دون حتى أن يحاول أن يقول إنه استلهمها منها، فهذه جريمة. فكم من أعمال فنية بنيت على أعمال فنية أخرى، وكم من فنان قال إنه استلهم أعمال فنان آخر وتأثر به!
النزاهة مطلوبة، حتى في الإبداع وفي الفن، ومع الأسف في الحالتين اللتين رُصدتا لغادة والي لم نشهد فيها دليلاً على تلك النزاهة.
Facebook Comments