
هذه القصة من تأليف هشام محمد البراوي من مواليد مدينة الفيوم عام 1981 وهو خريج كلية التجارة بجامعة القاهرة ويعمل محاسباً بإحدى الجهات الحكومية.
كلاب بشرية
هشام البراوي
تدقيق لغوي: تقى البشلاوي
المنزل
استيقظت مبكرًا كعادتي وذهبت متمطِّيًا إلى المكان الذي اعتدت أن أجد فيه وجبة إفطاري؛ حيثُ ما زالت أمي نائمةً وقد اعتادت أن تعد لي وجبة الإفطار قبل نومها؛ لأنَّها تعلم أني أصحو مبكرًا. تناولت وجبتي ثم جلست بجوار غرفتي بحديقة المنزل وما لبثتُ دقائق حتى نهضت متوجِّهًا لغرفة أمي؛ لأوقظها فإذ بباب غرفتها مغلقًا. طرقت الباب مرتين أو ثلاث فلم تسمعني. يبدو أنَّها لا تزال نائمة. أدرتُ وجهي متوجِّهًا لغرفتي مرة أخرى لأجلس بجوارها في حديقة المنزل.
اسمي (باسم)، هكذا تناديني أمي التي أعيش معها بهذا المنزل منذُ ما يقرُب من عشر سنوات وهو عدد سنوات عمري، حيثُ تبنَّتني وأنا ابن أربعين يومًا. ليست أمي التي أنجبتني، بيد أنَّها لم تكن لتعتني بي أفضل من أمي الحالية. لم أعرف لي أمًّا سواها، وما ألقاه منها من حُبٍّ واهتمام وعناية لم أكن لألقاه من سواها، وما أشعر به من سعادة لم أكن لأشعر به مع غيرها.
نادرًا ما كان يطرق باب بيتنا زائر, كما أنَّ أمي لا تغادر المنزل إلَّا لشراء بعض المستلزمات وحدها، فقد كانت دائمًا ما تتركني وحيدًا لأظل واقفًا أمام باب المنزل في انتظارها حتى تعود. وكانت تلك الأوقات هي الأسوأ بالنسبة لي؛ حيثُ إنني لا أطيق شعور الوحدة والانتظار.
يبدو أنَّ أمي قد استيقظت من نومها، فأنا أسمع خطوات أقدامها تقترب. هرولت إليها واحتضنتها فقبَّلتني كما اعتدتُ منها كل يوم فور استيقاظها، جلست على أريكتها وأنا بجوارها لتحدِّثني بنظراتها الحنونة الدافئة التي لا أمَلُّ منها أبدًا. نهضت أمي مبتسمةً ذاهبةً لإحدى الغرف، ثم خرجت من الغرفة ممسكةً بيدها بعض الألعاب التي أعرفها جيدًا. إنَّها الألعاب المفضَّلة إليَّ حينما نذهب في رحلتنا السنوية إلى إحدى الأماكن الساحلية. هذا هو المكان الوحيد الذي تصطحبني أمي إليه خارج المنزل. كم أحب امتزاج زُرقة السماء مع المياه التي تُداعب تلك الرمال الصفراء! هرولت تجاه أمي لأحتضنها فتحضنني مبتسمة الشفاه والعينين. كم أحب تلك النظرات الباسمة التي غالبًا ما أراها عندما أكون سعيدًا! إذ كانت تُولَد سعادتها من مخاض سعادتي، وكانت أجمل لحظاتي عندما أرى تلك العيون التي ترسم البسمات على شفتيها. هي أمي وحبيبتي وصديقتي وسيدتي التي لم أعرف سواها، دائمًا ما كنتُ أرى في عينيها نظرات العطف والحب والحنان والتي لم أرَها من أي إنسانٍ سواها، إذ كان الناس ينظرون إليَّ دائمًا بنظراتٍ يملؤها الخوف والرهبة، لا أعرف السبب ولكني لا أهتم لأمر الناس، بل الأهم أن أرى من أمي تلك النظرات الحانية.
الطريق
مرَّ يومنا بصورةٍ روتينيةٍ كما تمر بنا الأيام عادةً، فها هي أمي قد أيقظتني مبكرًا لأتناول وجبة الإفطار وقد أعدَّت حقيبتها استعدادًا لقضاء عُطلة الصيف التي أنتظرها كل عام. فتحت أمي أبواب سيارتها فجلست بالكرسي المجاور لها لتبدأ رحلتنا. أعرف هذا الطريق جيدًا؛ فهو الطريق الوحيد الذي تصطحبني أمي فيه مرة كل عام؛ لقضاء عطلتنا الصيفية بتلك المدينة التي أتوق إليها منذُ غادرناها في العام السابق.
جلست على نفس الكرسي المجاور لأمي ناظرًا من نافذة السيارة إلى ذاك الطريق الذي لم تتغيَّر معالمه كثيرًا منذُ العام السابق, نفس الأشجار على جانب الطريق والتي زادت أزهارها قليلًا وبعض المحال التجارية والإعلانات المصوَّرة الكبيرة تصطفُّ بانتظام ثم تأتي تلك المساحات الصحراوية الكبيرة التي تدل على اقترابنا من محطة الوقود التي عادةً ما تقف أمي بها لملء سيارتنا بالوقود ثم شراء بعض اللوازم من أحد المتاجر المرفقة بالمحطة. غلبني النُّعاس قبل الوصول للمحطة فأيقظتني أمي لأنام على المقعد الخلفي للسيارة؛ فهو أكثر راحة. لم أشعر بشيء فقد دخلت في سُبات عميق. كنت أنتبه إذا ما شعرت بارتفاع جسدي عن المقعد نتيجة مرور السيارة بأحد المطبات الأرضية. لم تكن أمي تقود بمثل هذه الطريقة من قبل، بل كنت دائمًا ما أستيقظ عند وصولنا للمدينة دون الشعور بمثل هذه المطبات.
انتفض جسدي عندما سمعت صوت احتكاك عجلات السيارة بالأسفلت، وفزعت عندما رأيت رجلًا لا أعرفه يجلس أمام مقود السيارة. يبدو أنَّه لص، وثَبْتُ تجاهه أحاول إيقافه، وما إن رآني حتى ارتعدت فرائسه وانتفض محاولًا إبعادي مع الحفاظ على سلامة قيادته، ولكني لم أتركه حتى أوقف السيارة وما لبث أن فتح بابها حتى خرج مهرولًا ناظرًا إليَّ بعينين يملؤهما الفزع، هرولت خلفه محاولًا الإمساك به حتى حالت بيننا السيارات المسرعة على الطريق، فلم أستطِع العبور خلفه لأمسك به ولم يتوقَّف أحد بسيارته لمساعدتي. وقفت قليلًا بجوار السيارة أنتظر أن تأتي أمي لنكمل رحلتنا، ولكن طال الانتظار فقرَّرت السير تجاه المدينة التي أصبحت على مقربةٍ مني فأنا أعلم الطريق جيدًا. ظللت سائرًا تضرب جسدي حرارة الشمس وتكاد تحترق قدماي الحافيتين من سخونة الأسفلت تحتهما.
المدينة
وصلت إلى المدينة باحثًا عن الظلال بجوار الأسوار التي تصطفُّ على جانبي الطريق، والتي تنبت وراءها الأشجار المرتفعة التي تُلقي بظلالها ونسائمها على المارة. كانت هذه هي المرة الأولى التي أسير فيها وحيدًا بين كل هؤلاء البشر, كنت أرى في أعينهم تلك النظرات التي يملؤها الخوف والرهبة، والتي اعتدتُ أن أراها في أعينهم باستمرار, أكملت سيري على الرصيف مجاورًا لتلك الأشجار التي تظلِّله ومع استنشاقي لنسائم الزهور والأشجار كانت رائحة اللحم المشوي تفوح من أحد المطاعم المجاورة لأسير تجاهه واقفًا أمامه والأمل يغمرني أن يعطيني أحدهم قطعةً من الدجاج أو اللحم المشوي، فأنا أشعر بالجوع والعطش. وما هي إلا لحظات حتى خرج أحدهم من المطعم مهرولًا تجاهي يحاول ضربي بتلك العصا التي يمسكها بيده، تفاديت ضربته وابتعدت عنه مهرولًا حتى اختفيت عن أنظاره بأحد الشوارع الجانبية، لم أعُد أقوى على السير.
افترشت أحد الأرصفة الظليلة لآخذ قسطًا من الراحة، فهي المرة الأولى التي أفترش فيها الرصيف نائمًا، أين أنتِ يا أمي؟ كم أشتاق إلى غرفتي المطلة على حديقة المنزل!
دخلت في سُباتٍ عميق تُداعبني أحلامي باللعب على الرمال بجوار أمي أمام البحر. لم أشعر بالوقت حتى انتفضت مفزوعًا من شدة الألم الذي انتابني عندما ضربني أحد الصبية على ظهري بشيء معدني, فزعت مهرولًا أبتعد عنه وأصدقاؤه ينظرون إليَّ ضاحكين, الآن علِمت لماذا كانت تتركني أمي وحيدًا بالمنزل رافضةً اصطحابي معها خارجه.
أكملت سيري مُنهَك القُوى ألتمس الظل في الطرقات الجانبية حتى خارت قُواي بجوار أبواب أحد المنازل المتواضعة، فافترشت الأرض محاولًا ألَّا أنام؛ حتى لا أتعرَّض لضربةٍ أخرى من أحدهم, فُتِح باب المنزل لأنتفض مبتعدًا فإذ بامرأة عجوز تقترب مني مبتسمةً تحمل في يديها إنائين أحدهما به بعض الطعام والآخر به بعض الماء, اقتربت بحذر لأروي ظمأي وأُشبِع معدتي الخاوية، ثم سرتُ مبتعدًا لأفترش الأرض نائمًا مختبئًا بجوار إحدى السيارات المجاورة لأحد الأرصفة.
استيقظتُ وقد نما إلى مسامعي بعض الأصوات المرتفعة, نظرت تجاه الصوت لأجد رجلًا مُحاطًا ببعض الرجال الذين يبرحونه ضربًا، والغريب أنَّ المارة كانوا ينظرون إليه ويسيرون بجواره بصورة عادية ولا يحاول أحدهم إنقاذه من بين أيديهم, هرولت تجاههم مسرعًا محاولًا إنقاذه من بين أيديهم، وما إن رأوني حتى ارتعدت فرائسهم وولُّوا مُدبرين، والعجيب في الأمر أنَّ هذا الرجل الذي كانوا يكيلون له اللكمات نظر إليَّ مرتعبًا وهرول مبتعدًا.
البناية المهجورة
أكملت سيري باحثًا عن أحد الطرق الرئيسة لأجلس على أحد الأرصفة مراقبًا لحركة السيارات المسرعة؛ لعلي أجد سيارة أمي بين تلك السيارات أو تراني هي فتأتي لاصطحابي, ظللتُ جالسًا حتى غابت الشمس وأصبحت الأجواء أكثر برودةً لأبدأ رحلتي في البحث عن أحد الأماكن البعيدة عن العيون حتى أستطيع النوم آمنًا دون خوف.
دلفت إلى إحدى البنايات المهجورة بأحد الشوارع الجانبية المظلمة ألتمس مكانًا آمنًا للنوم, دخلت في سُبات عميق وكأني لم أذُق طعم النوم منذُ سنوات، تُراودني الأحلام بأن تُوقظني أمي صباحًا لأرى عينيها اللامعتين وشفتيها الباسمتين وأُلقي بنفسي بين أحضانها، فأنسى ما عانيته طوال اليوم.
اليوم الثاني
فتحت عيناي وقد أشرق الصباح ممتزجًا بزقزقة العصافير على إحدى الأشجار المجاورة للبناية. ظللتُ راقدًا مكاني أخشى الخروج إلى هذا العالم المؤلم, ولكن لا بُدَّ لي أن أخرج لأبحث عن أمي أو تراني أمي بأحد الشوارع، فبالتأكيد هي تبحث عني كما أبحث أنا عنها.
علا صوت نغمات منبه الهاتف الجوال الموجود على الكومود بغرفة النوم الخاصة بالآنسة (ليلى)، لتمد يدها ببُطءٍ وتكاسل وتمسك بالهاتف لتكتم صوت المنبه، وسُرعان ما نهضت من فراشها ببُطء متجهةً إلى المطبخ لتضع بعض المياه بغلاية المياه الكهربائية، ومن ثَمَّ اتجهت لدورة المياه ومنه إلى المطبخ مرة أخرى لتعد كوبًا من الشاي مع بعض المخبوزات عائدةً لغرفتها، أخذت تبدِّل ملابسها واتجهت لعملها. استقلَّت سيارتها واضعةً هاتفها الجوال على أذنها.
كيف حالك أحمد؟ هل وصل الفوج؟
ممتاز. أنا في طريقي.
أدارت ليلى محرك سيارتها متوجِّهةً إلى إحدى القرى السياحية بالساحل الشمالي، حيثُ تعمل مرشدةً سياحيةً بالقرية، وقد استأجرت إحدى الشقق القريبة من القرية لتجاور مكان عملها.
البناية المهجورة
قرَّرتُ الخروج من البناية متجهًا إلى الشوارع الرئيسة بالمدينة أبحث عن سيارة أمي بين تلك السيارات المسرعة. سرتُ في طريقي ألتمس الظلال على الأرصفة المجاورة لبعض الأسوار، لأجلس على الرصيف متابعًا لحركة السيارات، ولكن دون جدوى. واصلت السير لأتوقَّف أمام أحد المطاعم، فأنا أشعر بالجوع والعطش الشديد، ثم تذكَّرت ما حدث من بعض الرجال أمام أحد المطاعم بالأمس؛ لأواصل السير في الطرقات مسرعًا مرة أخرى.
أدرتُ وجهي للجهة المقابلة من الشارع لأجد سيارة أمي تقف بجوار إحدى البنايات في الجهة الأخرى من الطريق، ها هي قد خرجت من البناية وفتحت باب السيارة جالسةً أمام المقود لتغلق الباب وما إن بدأت السيارة في التحرك حتى انطلقت مهرولًا لعبور الطرق باتجاه سيارة أمي محاولًا بشتَّى الطرق أن ألفت انتباهها إليَّ، ولكن دون جدوى. انطلقت مسرعًا خلف سيارتها أحاول اللحاق بها ليصطدم جسدي بإحدى السيارات المسرعة على الطريق وأشعر بألم شديد يجتاح جسدي, حاولت الوقوف مرة أخرى لألحق بأمي، ولكن لم أستطِع النهوض من مكاني, ليخرج أحد الرجال من السيارة غاضبًا من تلك الدماء التي تناثرت على سيارته فلطَّختها، اقترب مني أحد عمال النظافة ليُزيحني بمقشته على جانب الطريق. أشعر ببرودة شديدة تسري بأطرافي عيناي تريان مَن حولي وكأنهم ظلال تتحرك أمامي. لا أستطيع رؤية مَن حولي ولا أقدر على الحراك. يصل إلى مسامعي فقط بعض الضوضاء الناتجة عن أصوات مَن حولي ممتزجةً بآلات تنبيه السيارات.
إذ بليلى تقف بأحد الشوارع المزدحمة بالسيارات؛ حيثُ يعلو صوت آلات التنبيه. يبدو أنَّ هناك حادثةً ما بالطريق أدَّت لتوقُّف مرور السيارات به، لتبدأ حركة المرور ببطء فتسير ليلى بسيارتها لتلاحظ وجود بعض الدماء على الأرض. سارت (ليلى) ببُطء حتى أوقفت سيارتها بجوار أحد الأرصفة متجهةً ناحية مصدر تلك الدماء لتجد (باسم) مُلقى على الأرض غارقًا في دمائه لا يلتفت له أحد، فالجميع يسير بجواره ناظرًا إليه ثم يُكمِل سيره بصورة عادية كأنَّه لا يراه, تسمَّرت ليلى بجوار باسم ونادت أحد المارة بنبرة تكسوها الصدمة والشفقة قائلة:
– أستأذنك ساعدني على حمله إلى سيارتي؛ لأحاول إنقاذه.
نظر لها الرجل متعجبًا ممَّا تقول ليرد قائلًا:
– لماذا أنتِ حزينة سيدتي؟ ولماذا كل هذا الاهتمام لأمره؟! إنَّه مجرد (كلب)!
تمَّت بحمد الله…
المؤلف
هشام البراوي
Facebook Comments