قصة صليب خشب المنشورة في ميريت الثقافية العدد 43 يوليو 2022

قصة صليب خشب المنشورة في ميريت الثقافية العدد 43 يوليو 2022

صليب خشب

قصة قصيرة بالعامية المصرية

“ماريان” رمت حتة الكروشيه من ايدها. خلاص هتطق. من أول ما بتصحى لحد ما بتنام وهي بتلف حوالين نفسها. بتستنى يوم التلات عشان تنزل السوق. تقورها الشمس ف نافوخها فتعرف تنام. حتى الكنيسة بقت تروح بالعافية. لولا التناول مكانتش راحت.

الستات كل واحدة

“جوزي وصلني معرفش فين…

“جوزي جاب لي…

“جوزي حط لي…

“ابني نجح…

“ابني بيكح…”

لحد ما “ماريان” طقت خلاص.

شالت كل مرايات البيت عشان متشوفش الشعرات البيض اللي بدؤوا يظهروا. كأنهم عد تنازلي.

حتى خبر وصول أب جديد في الكنيسة مفرقش معاها. مفروض تروح تسلم عليه وتنول البركة. ومتوقعة أول ما يشوفوا خلقتها يبحلقوا ف لبسها. لأنها بدأت تلون على خفيف. رمادي غامق. كحلي غامق. همة ميعرفوش إن الأسود بيخنق في الحر ولا ايه؟ وبعدين والدتها طلعت السما بقالها أكتر من سنتين. و”ماريان”، بفضل ربنا، مهيش أرملة، يعني الأسود مش شريعة يعني.

بس تقول ايه بقى في دمغة الستات!

نزلت ترمي كيس الزبالة في صندوق البلدية على أول الشارع. عدت من قدام القهوة. رغم إنها كانت مليانة بشر محدش طلع حِس وهي معدية.

من سنة واحدة كانت لما تعدي اللي يقول

“نفسي أعمل ومش قادر!”

واللي يبحلق ويقول كلمة أبيحة.

رغم إن “ماريان” بتكره التحرش. وبتكره الكلام ده. وعارفة إنها خطية. مكانش ف حياتها حاجة تحسسها إنها بني آدمة إلا كلمة يقولها عابر.

طبعا هي زي أي بنت في الأربعين مرت بتجارب مع عرسان ومشاريع جواز قبل كدة. وبرضه زي أي بنت وصلت الأربعين ومتجوزتش مشاريع جوازها أدت لنتيجة صفرية.

بعد ما رمت كيس الزبالة رجعت ماشية عالرصيف الضيق بتعدي بسرعة قبل ما يدهسها الزحام وخصوصا وإنها دايما تغطي شعرها وهي نازلة. صحيح الشارع فيه مسيحيين كتير بس خلاص القانون يمشي عالكل. وأصلا مامتها كانت متعودة تحط إيشارب تافتاه أسود على راسها من بعد ما كبرت وخصوصا وهي رايحة الكنيسة.

“ماريان” رجعت البيت ودماغها عمال يلفف شريط العرسان واحد واحد.

همة تلاتة ملهومش رابع. زي التلات أقانيم.

الأول كان ابن صاحب المكتبة اللي اتباعت بعد ما مات من كام سنة وقلبت محل موبايلات. كان له ابن بيعرج بسبب عيب خلقي ومعرفش ياخد ثانوي، بيقف مع باباه في المحل. مامته كلمت مامتها بعد ما “ماريان” دخلت خدمة اجتماعية.

مامة “ماريان” قالت إن “ماريان” صغيرة عالجواز وده خلى مامة الولد كل ما تشوفها بعد كدة في الكنيسة تعمل نفسها مشافتهاش.

“ماريان” كانت موافقة لأنها حست إن الولد ده محدش هيقبل بيه بسبب عيب رجليه. كانت عايزة، زي ما المسلمين بيقولوا، تاخد فيه ثواب. أو زي ما بيوعظوا في الكنيسة نجول في الأرض ونصنع خير كتير زي السيد المسيح. الحقيقة بقى إنه خطب في نفس الفترة واتجوز. و”ماريان” فاكرة لما سمعت عن عمادة أول طفل له.

التاني كان موظف حكومي. عنده شقة ف الفلاحين. مامتها رفضته عشان خافت بنتها تعيش بعيد عنها وكمان وسط الفلاحين في قرية لا فيها كنيسة ولا قسيس.

التالت ده بقى جه بعد ما “ماريان” خدت لقب العانس. الستات ف الكنيسة كانوا بيقولوا لها هي ومامتها إنهم بيصلوا لها. وكل واحدة بتحاول تتطوع لحل المشكلة.

بس ليه فيه مشكلة؟

“ماريان” فكرت للحظة تبص ف المراية وبعدين غيرت رأيها.

المشكلة مكانتش ف شكلها. لأنها لا حلوة ولا وحشة.

المشكلة زي ما حللتها بعد العريس التالت كانت فيها أولا وف ظروفها ثانيا. مكانتش بتعرف تعمل ايه مع الرجالة. مبتفهمهمش. كانت ‘ناشفة’ و’جامدة’ زي ما العريس الأخراني اتهمها. والسبب التاني هو إن معندهاش مزايا مادية. شهادة عادية. مبتشغلش. أو بالأصح مقدرتش تكمل في أي شغل. فاضطروا هي ومامتها يقبلوا إعانات من الكنيسة، لأن معاش باباها اللي كان ساترهم مقدرش يسترهم في أيام الغلا. وهي مقدرتش تبذل جهد عشان ولو تأمن مستقبلها. كمان شقتهم إيجار ولولا إن صاحب البيت مسيحي ومريض وخايف من ربنا لكان طردها بعد وفاة مامتها.

تجاهلت الذكريات عن العريس التالت لأنها مؤلمة. كانوا خلاص هيطلعوا شهادة عدم وجود موانع للجواز وهيكلموا أبونا عشان تحديد ميعاد الخطوبة لولا…

مش مهم. خلاص.

فكرت وفكرت وفي الآخر خلعت هدومها كلها ورمتها عالارض. ضي الصليب عالحيطة قدامها. حاولت تقاوم. مقدرتش. لقت صوابعها بتتحرك لوحدها. ارتعشت وهي بتخرج صوت إباحي بتحس دايما إنه مش صوتها. وفتحت عنيها وبصت عالصليب الكبير اللي بيلمع عالحيطة والهزة بتموت ببطء جواها.

“كل الأشياء تعمل معا في الخير. طبعا احنا حافظين الكلام ده صم. بس هل احنا مستوعبينه؟ لما تحل بينا محنة أو نمر باختبار أو تجربة والنتيجة متكونش مرضية. هل بنفكر إن ربنا له خطة، وإن حتى المرحلة الصعبة دي جزء من الخطة اللي هتكون في الآخر خير؟”

“ماريان” كانت واقفة ورا بسبب الزحمة. عمر ما الكنيسة كانت مليانة كدة لا جمعة ولا حد ولا حتى في العيد. الستات شايلة أطفال والرجالة واقفين ولمحت وشوش كتيرة جديدة عليها كأن المنطقة كلها قلبت مسيحيين. معقولة؟

مكانتش شايفة وش أبونا كويس. بس صوته كان بيهزها من أعماقها. من زمان مسمعتش وعظة بالرقي ده. حتى آيات الكتاب المقدس اللي استشهد بيها كأنها بتفهمها معاه لأول مرة.

وابتدا القداس. واكتشفت إنها نست كتاب الصلوات. الصبح جرت نفسها من السرير جر عشان خافت لو فوتت المناولة كمان الأسبوع ده تدخل في مرحلة سين وجيم والناس يكلموا الكنيسة. وهي رغم إن حياتها في الكنيسة مهمة بالنسبة لها إلا إنها تعبت حتى من الصلاة.

ودانها فضلت تدور على صوت أبونا وسط الأصوات المتداخلة، متعرفش ليه، بس معترتش عليه.

ساعة المناولة كان الطابور طويل وحست بايد على كتفها. اتدورت مخضوضة

“متخافيش. ده أنا.”

كانت مدام “فوتنا”. المدرسة عالمعاش وجنبها بنتها “ماري” شايلة عيل على دراعها والتاني واقف جنبها.

“ماريان” شدت ابتسامة غصب وسلمت عليهم. “ماري” باستها وحست “ماريان” إنها هتستفرغ من ريحة الحليب اللي على هدومها.

“فينك يا ماريان؟ وأخبارك ايه؟”

“موجودة. نشكر ربنا.”

“بقالك فترة منزلتيش. خير؟”

“ماريان” تتلفت حواليها على أمل تحصل معجزة وتوصل لايد أبونا تتناول منه وتهرب. بس سوق المعجزات قافل النهاردة.

لأ. مش قافل تماما. صوت راجل وراهم بيقول

“مش هتأخر، ماشي؟ هروح أنقل العربية ليكلبشوها. عاملين فيها بتوع نظام، ولاد الكلب.”

“سامح!”

تسمع “ماريان” التحذير بتاع حماته جاي متأخر. الابن الكبير عايز يروح مع باباه. لكن جدته تحايله. تتشاغل “ماريان” عنها هي وبنتها وتحاول تلاقي لها موطيء قدم بعيد عنهم. بس “فوتنا” تقول بإلحاح

“كنت عيانة ولا ايه؟”

“لا.”

تلح “فوتنا” في الأسئلة.

“أعمامك بيتصلوا بيكي، مش كدة؟”

تتلفت “ماريان” حواليها لتاني مرة. “ماري” تزعق لابنها الصغير لأنه عايز يدخل الحمام. ويبدأ الأصغر في البكاء. المزيكا الكريهة.

“ماريان” تلاقي فرصة هرب لما العيلة اللي قدامهم تتخلى عن موقعها. تنتهز الفرصة وتزنق نفسها. الحر هيخنقها بس تصبّر نفسها إنه هانت. وتوعد نفسها بإجازة طويلة من الكنيسة.

أبونا يناولها القُرْبانة. ترفع راسها فتلاقي عنيه الواسعة بتبتسم لها. تتحرك بعيد. الكاهن يمد ايده ويناولها الدم. تشرب بسرعة وتشرق بس تكتم الكَحَّة.

تمشي “ماريان” مخدرة لحد البيت.

تاكل الخبز الصابح على مهلها وتفتح قزازة نبيذ. عمرها ما عملتها. حتى مامتها مكانتش بتشرب. القزايز من أيام أبوها. فكروا يرموها وبعدين منفذوش الفكرة. أي فكرة بتفقد قيمتها لو متنفذتش.

تقعد على الكنبة وتتمدد. تفتح برنامج فيه ستات بلاستيك بيضحكوا للكاميرا بسنان بيضا زي اللي كانت بترسمها في كراسة الرسم وتلونها بالأبيض والمدرسة تقولها

“عملتي بشرتهم غامقة وسنانهم بيضا اوي كدة ليه؟ سيبي اللون على طبيعته.”

ماريان تتأمل أجسامهم المنفوخة وشعورهم الطويلة الناعمة. كل واحدة فيهم تمنها كام؟ مين صنعها؟ بتدخل الحمام زينا ولا لأ؟

تاكل الخبز على مهل. تفتكر البوسة اللي طبعتها على ايد أبونا. ليلة التناول بتعتدل أفكارها والليل بيفقد سلطانه عليها.تسرح كتير. تتخض من نفسها وتعتدل في جلستها والخبز يقع منها عالأرض.

وهي نايمة على جنبها تغمض عنيها. نظرة عنين أبونا بتطاردها حتى دلوقت. وقتها الخاص. اللي بتختلي فيه بنفسها. ومبتكونش “ماريان”.

الزمن أكبر عدو للسعادة وأكبر هادم للمتعة.

فاتت الأيام زي كل الأيام اللي جت قبلها. “ماريان” خرجت السوق مرة واحدة واشترت شلة خيط عشان تكمل الجيليه. اكتشفت لما رجعت إن درجة اللون مختلفة، أغمق سِنّة. فضلت تدور في الجيليه يمين شمال مش عارفة تحلها ازاي. لازم تهد كل شغلها وتعيده وتعمل لونين متداخلين.

سابت الشغل والشَلَّة جنبها وقعدت تحملق في الفراغ.

تاخد قرار وتسيبه يفلت من بين طيات ذاكرتها. تاخد غيره وتسيبه يلقى نفس المصير. أيامها تبدو بلا نهاية.

تتفرج على قنوات مسيحية. تكرس وقتها للفهم. تحس ببعض السلام. والنوم يجي أسرع. تلاقي كتاب الصلوات صدفة وهي بتدور على إبرة رقم اتنين في درج مامتها. تفكر نفسها بالتخلص من الكراكيب. لازم تعمل ده قبل العيد وإلا… وإلا ايه؟ هتخجل من الزيارات. مين هيزورها السنة دي؟

قلبها يحرقها من الطعمية وتقرر تنزل السوبر ماركت تاني يوم. تكسل. اليوم اللي بعده.

رجليها والتاكسي ياخدوها للجمعية. البنات والستات بشعورهم المكوية. تقعد “ماريان” وتضم رجليها تحتها. زمان كانت مامتها هي اللي بتتولى الكلام والشكر الطويل ومباركة الرب. ماريان لسانها تقيل في اللغة دي. مش قلة عرفان بالجميل. بس ملل التكرار. بيخنقها.

تحس بعصبية لما الكرسي ينتش جيبتها. الوعظة/الدرس/المقابل بيبتدي دايما بحدوتة. والنهاردة الخادم/شبه الكاهن/طالب الطب بيحكي عن أسرة اتحرمت من الانجاب سنين وأخيرا الرب أعطاهم شهوة قلوبهم.

“ماريان” تقاوم النعاس والرغبة في الاختباء. لو اتصادف حد من كنيستها هنا هتكون فضيحة. تسخر من نفسها

“وأنا مين يعني عشان يلسنوا عليا!”

تقف تستنى الظرف. الظرف الشهري.

تفتحه في البيت قبل ما تاخد نَفَسها من السلم. تسمع صوت أستاذ حبيب وهو بيسلم على ضيوف نازلين من عنده. تقف جنب الباب شوية تتصنت على أحاديثهم.

تملا البانيو وتمدد فيه. تحس بالجوع. بس تميل راسها وتتمنى لو كل الأصوات اختفت من العالم.

المرة دي لقت مكان. رغم إنها وصلت قبل ما أبونا يظهر بدقيقة واحدة. ضحك مع الشمامسة قبل ما يقف قدام المذبح. عنين “ماريان” مسحت صورة المسيح على الصليب. قلبها دق كأنها بتستعيد لحظة الصلب. كأنها أمه بتبكيه مرة تانية وللأبد.

عنيها اتعلقت لحظة بوش أبونا وبعدتها. مين ده؟ كأنها تعرفه. شافته قبل كدة. وشه بيحمل لها فكرة أو إحساس قديم. شفايفه بتتكلم. الكلمات بتنزل على وجدانها تغسله. بيتكلم عن الرجاء. ازاي هو مختلف عن الأماني والأحلام والطموح. ازاي هو اللي بيمهد لنا الأرض للحياة الأبدية.

ماريان تبص عالمسيح المصلوب. الأبدية بالنسبة لأم النور دموعها اللي ذرفتها عليه. الأبدية بالنسبة ليسوع مجد. الأبدية بالنسبة لأبونا الملكوت. الأبدية بالنسبة لها هي ايه؟

عقلها فرغ للحظة من محتواه. كل محتواه.

اتناولت، بس عكس المرة اللي فاتت لقت أبلة “سميرة” اللي حكت لها عن زيارتها لأهلها في الصعيد. القطر والحر والزحمة والأسعار. لما وصلت لايد أبونا كانت منتبهة. شكرته وباست ايده.

“ربنا يباركك. اسمك ايه؟”

بحلقت فيه. كأن السؤال أصعب من إنها تجاوبه.

“ماريان.” صوت أبلة “سميرة” كأنه مكبر صوت.

“ربنا يباركك يا ماريان. متنسيش الرحلة الأسبوع الجاي.”

البنت اللي ناولتها ورقة مطبوعة بتاريخ الرحلة ومكانها وقيمة الاشتراك كانت عاملة ديل حصان وعنيها ملونة. دفعت “ماريان” الاشتراك الرمزي وملت اسمها الثلاثي ومعرفتش تقرا خط البنت لأن مكانش معاها نضارة القراية.

دخلت من الباب زي الحرامية لحسن حد يشم ريحة البسطرمة. خبت اللفة في قلب درج التلاجة كأن حد هيجي يفتش ويقبض عليها.

غيرت لقميص بيت ورن تلفونها. ترنيمة نست إنها حطتها على التلفون ساعة ما اشترته “دايما في قلبي يا أحلى أب”.

“سمير” ابن خالتها. اترددت ترد. كالعادة هيفكرها إنها وحيدة، إن كل واحد في ناحية، وإن الرب حكم عليهم بالتشرذم.

للحظة شمت ريحة البن المطحون طازة عصر الحد في بيت ستها. وشافت سمير داخل بلبس جديد، وهي بالفستان اللي بتلبسه وهي رايحة الكنيسة. سمير جاي من برة بعد ما باباه خده هو وأخته فسحهم واشترى لهم آيس كريم. المرة دي مامتها “إلهام” متخانقتش مع أختها “إيريني” عشان جدتها خلاص، الدكتور قال إنها مسألة شهور.

“ازيك يا ماريان؟ فينك يا بنتي؟” كأنه سؤال أبدي. وكل الأسئلة الأبدية ملهاش إجابة. “طمنيني عليكي. عاملة ايه؟”

بدأت ماريان تعد في ذهنها عدد الأسئلة اللي ملهاش غير إجابة واحدة.

وأخيرا

“سوزان عايزة تكلمك.”

سألت عن الولاد والأحوال عشان تتجنب أي أسئلة عنها. صوت الساعة القديمة رن ببحة وافتكرت إنها نست تغير الحجر من مدة.

“عايزين نشوفك. تعالي اقعدي عندنا شوية.”

“ليه؟ أنتوا مش نازلين المحلة في العيد ولا ايه؟”

“نيفين عندها دروس. أنت عارفة تانية ثانوي السنة دي، وفادي بقى ميستغناش عن النادي وأصحابه.”

دعوة الزيارة بدت خارج السياق. خارج الفهم. “ماريان” مش فاكرة زارت بيتهم كام مرة. جايز صفر. جايز مرة في مناسبة وفاة حد من أهل “سوزان”.

قفلت معاها مع وعد شفهي. تجنبت تقول مشغولة أو تعبانة. عشان متسمعش ‘وراكي ايه يعني!’

يوم القداس الكنيسة زحمة. كأن المحلة كلها هناك. كأن المسيحيين هيفرشوا الشوارع زي المسلمين. “ماريان” لقت لها مكان على التختة بالعافية. المرة دي كتاب صلواتها حاضر. حتى ذهنها حاضر. حست بحضور الروح القدس بقوة. الكنيسة مش مجرد مكان، دي جماعة المؤمنين. تململت لما أسرة حشرت جنبها بنتهم المراهقة. صورة الصبا. “ماريان” بصت عليها. البخور معبق الكنيسة وصوت الشمامسة والخدام زي أصوات الملايكة. رتلت صلواتها وأجبياتها. حست بحضور الروح القدس حواليها. دماغها اختفى منه الصداع الدائم.

صوت الأسقف وكلامه أدخلوا السكينة على قلبها. اتمنت تسمع أبونا “مايكل”. فكرت في معنى قيامة المسيح. حست بفرح حقيقي.

محدش وجه لها كلام وهي خارجة من الكنيسة. مشت لحد السوق. تاهت في الزحمة وسط الموظفين والأمهات.

“جبت كام يعني في الإملا؟

هتروحي عند تهاني ولا هتستني لما محمود يكلمك ويقولك على ميعاد الدكتور. والله كله بايد ربنا. احنا اللي متعجلين.

الكوسة بعشرين…

ده عنب بناتي من غير بذر… البذر ده راحت عليه. هو حد عاد بياكله.”

“ماريان” اشترت برتقال وخضار للسلطة وعدت على محل العطار واشترت طرشي كتير. وجابت كوز درة. خَطِيّة صغيرة.

رتبت غَدا بسيط على ترابيزة المطبخ. قعدت سرحانة. وف الآخر قررت تلبي دعوة ابن خالتها ومراته.

“سمير” انسحبت صلعته لورا و”سوزان” صبغت شعرها بضي أحمر، بس قابلتها عالمحطة وهي لاماه. لما رجعوا البيت فكته. تخنت اوي.

“ماريان” كانت مكسوفة. بيتهم بدا لها غريب. أهل “سوزان” عندهم. تاهت وسطيهم واستقبلت أسئلتهم بإجابات كأنها متهم بيدافع عن نفسه.

حطت شنطتها في اوضة “نيفين”. التسريحة عليها ماكياج وبارفانات وصور المشاهير عالحيطة اللي بيتوسطها صليب خشب صغير مشغول.

غسلت وشها وطولت ف الحمام. معندهاش اللي تقوله.

“نيفين بقى مريحاني لا بقول ذاكري ولا متذاكريش.”

“سوزان” ضحكت وهي بتبص لـ”فادي” اللي قعد ورا باباه ووشه في موبايله.

حماة “سمير” متشحة بالسواد. “ماريان” مسألتش لأنها محضرتش جنازة جوزها. كان وقت مرض مامتها. وجايز فيه سبب تاني منعها.

“سمير” سألها عن أحوالها

“الحمد لله. ماشية.”

“متحبيش تشتغلي يا ماريان؟ واهي تبقى تسلية.” كان اقتراح “سوزان”.

“ماريان” جربت الشغل زمان… زمان اوي. بس معندهاش خُلْق تنزل من البيت كل يوم ولا تقف على رجليها ولا حتى تكلم الناس كل يوم.

سابتهم يقرروا على مهلهم إن كانت فكرة العمل مجدية ولا لأ. حماة “سمير” وبنتها شافوا إنه “هدة”. أما سمير فقال من غير مناسبة

“لو تقعدي هنا، ممكن أكلم لك السورات في مدرسة نيفين. يقدروا يلاقوا لك شغلانة وسكن كمان.”

“ماريان” شكرته وسكتت. هي مخدتش القطر لحد هنا عشان تقلب حياتها. مينفعش تقلب حياتها وهي عندها اتنين وأربعين سنة. هي مش ست طايشة.

بنت “كاميليا” أخت “سوزان” جت من تحت ومعاها كيسين بقالة. بصت لـ”ماريان” وبعدين دخلت جوة.

“سوزان” وقفت

“عاملين لكو مفاجأة عالأكل.” بصت لجوزها “تيجي تساعدنا يا بابا؟”

بعد دخولهم المطبخ، “نيفين” و”فادي” خدوا جنب وفتحوا التلفزيون. حماة “سمير” مالت عليها

“أنت عارفة يا ماريان إني كنت تعبانة شوية بس الحمد لله بقيت كويسة. زميلة سمير في الشغل كانت قالت لنا على دكتور. المهم، راجل بصراحة ربنا يباركه ذوق وضمير وأخلاق. زميلته دي رفعتني في الصلاة هي وكل اللي بيدرسوا الكتاب معاها. عاملة درس كتابي للسيدات. يا ريت تبقي تيجي معانا يوم الخميس الجاي.”

“ماريان” تعبث بعُقْد حوالين رقبتها. تفكر في خطوة أو اتنين تقربها من فكرة ما.

“نبقى نروح نزور مامتَك.” اقترحت على “سمير” على ترابيزة الأكل.

أكل “سوزان” أفرنجي من غير دسم. “ماريان” شكرتها. “نيفين” اتكلمت عن دايت ملحقتش “ماريان” تلقط اسمه. كلمتهم عن أبونا.

“الكنيسة رجعت لها الرِجْل تاني.”

“دينا صاحبتي زارت الكاتدرائية وسمعت وعظة سيدنا. بتقول أجمل وعظة سمعتها ف حياتها.”

“فادي” بص لأخته كأنها بتتكلم لغة أجنبي.

“ماريان” حاسة بالإحراج اللي دخل معاها بيت ابن خالتها. مقدرتش تقول لأ.كل لأ لها تمن. لكن مش عايزة تشارك الصغيرة اوضتها. مش عايزة تكون في مكان واحد مع “نيفين”، طالبة تانية ثانوي. الدور عليها، على “نيفين”، عشان تخطو أول خطوات الحياة. أما “ماريان” فلازم تفتح الباب وتخرج.

في القطر حست بالدايرة بتقفل. حتى ساعتها فيه إحساس بالأمان. اشترت سندويتش برجر وكلته وهي باصة في الأرض. شعرها غطته بالإيشارب التافتاه بتاع مامتها. لمحت انعاكس صورتها في قزاز القطر. كأن مامتها بُعثت إلى الحياة مرة أخرى.

تمت

نبذة عن الكاتبة

نادية توفيق كاتبة مصرية مقيمة في كندا. حاصلة على بكالوريوس الصيدلة وماجستير في الأدب المقارن ودكتوراه في الأدب الفرنسي. فازت روايتها “نساء المحروسة” في مسابقة “ببلومانيا للرواية العربية 2020”. الرواية تتحدث عن حرية الفكر والروح والجسد، والحدود بين المذكر والمؤنث على مدار الجغرافيا المصرية.

بدأت منذ سنوات بكتابة القصة القصيرة. ونشرت بعضا من قصصها ومقالاتها في دوريات أدبية مثل “إبداع” و”القصة” و”ميريت الثقافية”. باكورة أعمالها هي المجموعة القصصية “أجنحة متكسرة” التي تتحدث عن الحب والحياة والموت والأمنيات الغالية.

الموقع: http://nadiatawfikbooks.com/

فيسبوك وتويتر وانستجرام: @nadiatawfikbooks

جودريدز: Nadia Tawfik نادية توفيق.

Facebook Comments