
قصة أبنائي المنشورة على “ذاكرة القصة القصيرة” بتاريخ 4 أكتوبر 2022.

أبنائي
قصة قصيرة بقلم نادية توفيق
أعتذر منكم أبنائي. سامحوني. لم أترك لكم ذكرى طيبة ولا ثروة كبيرة. لقد كنت دائما هكذا خارجة عن القانون والعرف، مشاغبة، سيئة السيرة. حاولت كثيرا تقويم نفسي ولكنها كانت فطرتي التي جبلت عليها وكأنها لعنة لصيقة بي حتى آخر العمر. ها أنذا اليوم منبوذة في كوخ صغير على أطراف الغابة الجرداء. استرجع ذكرياتي بمرارة وأتألم دون ندم. فقد توقعت هذا المصير منذ البداية وتوقعه معي كل الأقارب والأصحاب حتى زوجي الحبيب قال لي يوما: “سوف تنتهين نهاية مفجعة”. لقد كانوا رحماء معي إذ حكموا عليّ بالنفي ولم يعذبونني طويلا ولم يقتلونني. لقد استأصلوا النبتة الفاسدة واستراحوا.
عندما أنجبتكما ظن الجميع أن حالي سينصلح، ولكن هيهات منذ أول لحظة بدأت أعراض تمردي تظهر. بدأت المشاكل مع الخبيرة الاجتماعية عندما صممت أن أرضعكما من لبني. ثارت واتهمتني بالشذوذ. ولكني أردت أن أضمكما إلى صدري في لحظة التحام لا يعوضها حنان العالم. وبعد جدال عنيف استمر شهورا لم يكن أمام زوجي المسكين من خيار إلا أن يرسلكما إلى إحدى أكبر المؤسسات الحكومية حيث تتلقيان كل رعاية واجبة. لم تكن هذه أول المشاكل التي سببتها له. ففي المدرسة حيث بدأت أعمل بعد زواجي بعدة شهور نشبت بيني وبين الناظرة مشكلة رهيبة عندما رفضت أن أمسك بالعصا بيدي اليمنى وبإصبع الطباشير باليد اليسرى. ولكن لم يكن لي من الأمر من حيلة، فلم أكن أكتب إلا باليد اليمنى ولم أستطع يوما أن أرفع عصا في وجه طفل صغير. أيامها سعى زوجي طويلا عند بعض الكبار لإنهاء المسألة وديا. كانت أياما عصيبة. ولكنها لم تكن الوحيدة. في الواقع لقد كانت أيامي في تلك المدرسة كلها عصيبة. فقد كنت أسمح لتلاميذي بفك أيديهم أثناء جلوسهم في الفصل، بل كنت أسمح لهم أن يحركوا أيديهم وأن يجلسوا على المقاعد كيفما شاءوا. فأنا للأسف لم أتعود النظام. أنا فوضوية بطبعي. لا تؤاخذاني فأنا أعلم كم عانيتما من فوضويتي طوال حياتكما.
وبعد أن أبعدت إلى مدرسة أخرى وأخذت أدرس لسنين عمرية أكبر، هدأت الأمور بعض الشيء إلى أن ارتكبت فعلا فاضحا في فناء المدرسة. سأخبركما بما حدث علكما تعذراني وترحماني، فأنتما طفلاي.
كان بعض الأطفال يلعبون الكرة عندما كنت مارة بالقرب منهم، وإذا بأحدهم يسقط إثر ضربة قدم غير مقصودة من زميله. سقط الطفل على وجهه وأخذ ينزف بطريقة مريعة. لم أر جيدا مصدر النزف، ولكنني لم أشعر إلا وأنا أخلع الجاكيت الذي كنت أرتديه وأحاول كتم مكان الجرح. ثم حملته بصعوبة شديدة بمساعدة زملائه إلى حجرة الكشف الطبي. طبعا حولوني للتحقيق بتهمة التحرش بمراهق في الثانية عشر. لقد قال لي المحقق وقتها أنه كان عليّ استدعاء أحد زملائي الرجال ليتولى المهمة، أما وقد فعلت ذلك فمهما كانت نواياي فقد خلعت ملابسي في قاع المدرسة وتحرشت جسديا بمراهق في عمر أبنائي. أيامها تحمل زوجي، والدكما، الكثير، لدرجة أنه فكر في الرحيل من مدينتنا. لذلك طلب مني ألا أعمل بعد اليوم وهكذا كان. ولكن طبيعتي المشاكسة غلبتني. فقد كنت أزور بعض الأقارب في إحدى المناسبات السعيدة، وإذا ببعض أطفال العائلة يحيطون بي. وأخذت أقص عليهم بعض الحكايات القديمة. مما أثار دهشة السيدات وامتعاضهن، فالحكايات القديمة تفسد عقول الأطفال. ولكنني أجدها مسلية. يومها نهرت السيدات الكبيرات الأطفال وفرقتهم. وبعد مرور بعض الوقت انشغل الجميع في الحفل ونسوا الأطفال. فكانت فرصة أن نتجمع مرة أخرى في ركن قصي. وهذه المرة ارتكبت ما هو أسوأ. كان معي في حقيبتي صلصال. فأخرجناه وأخذنا نحاول تشكيل شخصيات وأحداث الحكايات به. ويبدو أن ضحكنا وصل إلى مسامع الكبار رغم انشغالهم، فانقضوا علينا وفرقوا شملنا.
لست أدري كيف تواتيني الشجاعة الآن للإفصاح عن كل هذه المخازي أمامكما. ولكنني أود أن أتطهر. ربما آمل أن تصفحا عني إذا ما استمعتما إلى دفاعي الواهي هذا. أعرف أنكما لا تستطيعان أن تغفرا لي افتقاري للحكمة معكما. اعتراضي الدائم على سلوككما المهذب. ربما كنت آمل أن أنجب من يشبهني. أعترف أني كنت أكره ملابسكما، طريقة إنصاتكما إليّ التي كانت تشي بالاحتقار. أعترف أنني كنت أستاء من تفوقكما الدائم في فرق الطلائع. كنت أتمنى أن أجد لي نصيرا.
أتذكر يوم عاد والدكما من سفرة دامت شهرا. كانت أول غيبة طويلة له عني وشعرت وقتها أنني أحبه فعلا وآليت على نفسي أن أطيعه وأرضيه على قدر استطاعتي. وعندما دخل المنزل جريت نحوه وقبلته أمامكما. لم أكن أقصد ما فعلت. كان عذري الوحيد أنني لا أقصد ما أفعل حقا. أنا لا أزن الأمور بميزان سليم. لقد كان يقول لي “أنت طائشة وطيشك سيقتلك يوما”.
كما كانت آخر رئيسة لي في العمل تردد دائما على مسامعي “أنت عدوة النظام”. عندما قبلت زوجي أمامكما لم أدرك عواقب ما فعلت. حتى فوجئت بالخبيرة الاجتماعية تطرق بابي ذات صباح، وهي تحمل معها ملفا عريضا. وخصصت لي عدة جلسات. انتهينا منها إلى أنني بحاجة إلى إعادة تأهيل. ثرت طبعا كالمعتاد. وصمم زوجي أن أحضر التدريب، ووافقتماه كالعادة. فذهبت فقط كي أرضيكم ويا ليتني ما فعلت. في أول محاضرة قاطعت المحاضر لأنه قال “إن القاعدة الذهبية في التربية هي الطاعة العمياء. يجب أن يتعلم أطفالنا ألا يناقشوا الأوامر منذ أن يعوا الأمور”. ولكنني انبريت بعفويتي المعتادة واعترضت قائلة: “إن الطفل إذا ترك على سجيته سيصبح مبدعا، أما إذا أحيط بالقيود من كل جانب فسوف يصبح إنسانا مشوها غير قادر على التفاعل مع الحياة”. توجهت نحوي النظرات كالسهام المصوبة وشعرت بها تخترقني. وتفرغ لي المحاضر لمدة ساعة يعلمني فيها أصول الكلام ثم أصول الأدب ثم أصول اللياقة ثم أصول التحاور وأخيرا أصول التربية. بعدها قررت أن أنقطع عن التدريب. “لا أمل فيك”. هذا ما سمعته من زوجي ليلتها.
لم يغمض لي جفن هذه الليلة. كان عليّ أن أجد الحل الحاسم لمشكلتي وحدي بلا مساعدات خارجية. بما أنني خلقت “كسّارة للقواعد” فعليّ أن أصلح من شأني وإلا فلأنعزل عن البشر. وأخذت قراري، الذي ما كان عليّ أن آخذه، قررت أن أتطوع في “الخدمة العسكرية النسائية”. أخبرت زوجي بما قررته “إذا كان الجميع قد فشلوا في تعليمي النظام، فسأذهب إلى معقل النظام نفسه”. استمع إليّ زوجي في صمت حكيم كعادته وناداكما كي أعلن عليكما قراري المصيري. هنأتماني ببرود على محاولتي الإصلاحية وأخذتما حقيبة المدرسة وانصرفتما. ابتسم لي زوجي في حزن قبل أن يخرج ذلك الصباح.
الحياة في المعسكر لم تكن سيئة عكس ما توقعت. على العكس لقد صور لي حماسي وأملي في أن أصبح إنسانة جديدة أن هذا هو ما أحتاج إليه، وأقبلت على واجباتي أؤديها بحب وجدية. كانت القاعدة الذهبية هي “الطاعة العمياء للأوامر”. كانت هذه الكلمات الحاسمة تتردد في ذهني وفي جميع حواسي بلا كلل ولا ملل كل ساعات النهار. وبدأت أنظر للغد بكثير من الأمل. وفي أول زيارة لي لكم بعد أسبوعين رأيت الدهشة في عيونكم. دهشة ممزوجة بإعجاب بزيي العسكري. ولأول مرة يومها أحس أننا أسرة متآلفة. كم كان دافئا ذلك الشعور!
كنت الأولى في السباحة وسرعة رد الفعل والأخيرة في إصابة الهدف. وبعد قضاء حوالي شهر داخل المعسكر جاء أحد قادة الجيش الكبار لزيارتنا ومعه عدسات التلفزيون. ويبدو أن الأمر كان مرتبا قدريا كي تشاهد الأمة كلها نهايتي. اختارني مخرج التلفزيون لأقف في أول الطابور. وهمس في أذني أنني “المرأة الوحيدة في هذا المكان”. ابتسمت رغما عني لكني عارضته قائلة إن زميلاتي هن من خيرة نساء الوطن. انتحت بي القائدة جانبا وأمرتني أن ألتزم الصمت إلا إذا طُلب مني الكلام وأعطتني ورقة صغيرة فيها الردود التي من المفروض أن أرد بها على استفسارات القائد الهام عن الحياة في المعسكر، وما نراه مناسبا كنساء الجيش ودورنا المستقبلي في الحياة المدنية. حملقت في الورقة فلم أقرأ إلا سخافات. وبدأ عقلي يعمل دورته المعتادة. ذكّرت نفسي “الطاعة العمياء”، وحفظت ما في الورقة عن ظهر قلب. وبدأت مراسم الزيارة ودارت الكاميرات. وأخذ قلبي يخفق. واقترب دوري. وجدته واقفا أمامي طويل القامة، مهيبا، وسيما، صوته عميق النبرات. ملكتني رهبة شديدة ومسح كل الكلام من ذاكرتي. سألني عن النظام والتدريبات. بدأت أتكلم وإذا بالجميع يحملقون فيّ. والمخرج يبتسم ابتسامة عريضة. سألني عما سأفعله عند العودة للحياة المدنية. “عندما جئت إلى هذا المعسكر كنت فزعة مما ينتظرني، ولكن يا للغرابة وجدت هنا نظاما أقل صرامة مما وجدته في حياتي المدنية. بل واستمتعت بالتدريبات والألعاب والحياة الجماعية. إن حياتنا المدنية بحاجة ماسة لهذا النظام العسكري. لذلك أرى أن يغزو الجيش المدن ويعلم الناس كيف يعيشون حياتهم بطريقة أكثر مرحا وأكثر ليونة”.
لم أشعر إلا والقائدة تطلب وقف التصوير. لم أفهم التعبير الذي ارتسم على وجه الزائر الهام. ولكني أعرف أنه بعد يوم واحد خرجت من المعسكر ومعي رزمة أوراق كلها تثبت أنني غير صالحة للعيش في هذا المجتمع. وأرسلت وزارة الشؤون الأسرية لزوجي خطابا للمثول أمام لجنة عقوبات. وذهبنا جميعا. وبعد بضع جلسات أصدرت اللجنة حكمها بعدم صلاحيتي كأم وكزوجة.
لقد تعبت ولم أعد حتى أقوى على طلب صفحكم. ولكنني أطلب منكم الآن شيئا واحدا. جربوا طريقتي ولو لمرة واحدة علكم تجدون لي عذرا.
أحبكم…
نبذة عن الكاتبة
نادية توفيق كاتبة مصرية مقيمة في كندا. حاصلة على بكالوريوس الصيدلة وماجستير في الأدب المقارن ودكتوراه في الأدب الفرنسي. فازت روايتها “نساء المحروسة” في مسابقة “ببلومانيا للرواية العربية 2020”. الرواية تتحدث عن حرية الفكر والروح والجسد، والحدود بين المذكر والمؤنث على مدار الجغرافيا المصرية.
بدأت منذ سنوات بكتابة القصة القصيرة. ونشرت بعضا من قصصها ومقالاتها في دوريات أدبية مثل “إبداع” و”القصة” و”ميريت الثقافية”. باكورة أعمالها هي المجموعة القصصية “أجنحة متكسرة” التي تتحدث عن الحب والحياة والموت والأمنيات الغالية.
الموقع: http://nadiatawfikbooks.com/
فيسبوك وتويتر وانستجرام: @nadiatawfikbooks
جودريدز: Nadia Tawfik نادية توفيق.
Facebook Comments