انخرطت مؤخراً في نقاش مفيد حول أهمية أوبرا عايدة، ومدى الفخر الذي يمكن أن تحمله لنا كمصريين كي نرمز بها الى مصر. ورأيت في هذه الأوبرا كثيراً من العناصر التي يمكن أن تسيء إلى مفردات الهوية المصرية بشكل أو بآخر. وربما كانت تسيء كلمة قوية، فلأستبدلها بعبارة أنها لا تعبر عن الهوية المصرية

تحكي الأوبرا قصة حب بين قائد الجيش المصري وبين ابنة قائد جيش الأعداء التي وقعت في الأسر. والأوبرا تحمل اسم عدوة مصر تلك وهي عايدة.

كما نعلم، الحبكة القصصية في الأوبرا لها أهميتها بقدر أهمية الموسيقى. فالأوبرا باعتبارها فناً من فنون المسرح الغنائي تعبر بالتمثيل وبالغناء الأوبرالي عن قصة بعينها. ربما تكون الحبكة القصصية في فن الأوبرا عموماً ليست هي أهم ما يتم التركيز عليه، وغالباً ما تشتهر الأوبرات بفضل التناغم بين أصوات الآلات الموسيقية والأصوات البشرية، ومدى الجمال الذي يحمله هذا التناغم.

لكن أوبرا عايدة حالة فريدة بسبب خصوصية إنتاجها من أجل الاحتفال بافتتاح قناة السويس الأولى في 17 نوفمبر عام 1869، التي حفرها المصريون بدمائهم وأرواحهم، بناء على مشروع اقترحه السمسار المكوكي عابر البحار ديليسبس على الخديوي اسماعيل ووجد قبولاً لديه. وذلك في فترة احتدم فيها الصراع المعلن والمبطن بين الصديقين العدوين إنجلترا وفرنسا على قلب الخديوي اسماعيل. ونحن الآن أيضاً نستطيع أن نقول إن الاستعمار الأوروبي لمصر كان قد بدأ في عصر اسماعيل وكان هذا إيذاناً بالدخول في عصر الوصاية والهيمنة للقوتين الكبيرتين وقتها إنجلترا وفرنسا. فمصر ظلت واقعة تحت تأثيرهما بشكل أو بآخر طوال الفترة التي لحقت حكم اسماعيل وصولا الى 1952.

كان الخديوي اسماعيل مهتماً اهتماماً كبيراً بالإعداد لاحتفالات افتتاح قناة السويس. وكان قد بدأ هذا الاعداد قبل سنوات من الحدث نفسه. الخديوي كان يريد إنتاج عمل غنائي مسرحي مرتبط بالثقافة المصرية، وبالذات التراث المصري القديم، حيث أن علم الآثار كان في أوج اهتمامه بتاريخ مصر، واراد الخديوي أن يكون هذا العمل إيطالياً. لا يبدو أن هناك تفسيراً ما لرغبة الخديوي في أن يكون هذا العمل إيطالياً بالذات. ربما كان يحن إلى أيام شبابه التي عاشها في فرنسا وايطاليا. وكان حديثه الطلق باللغة الفرنسية يقربه كثيراً من الثقافة الأوروبية، ومن ذلك النوع من الموسيقى الأوبرالية. بدأ المشروع في ذهن الخديوي بفكرة عمل مقطوعة مسرحية صغيرة. أو hymn

تُقدم أثناء الاحتفالات ووقع اختياره على فيردي لتأليفها. لكن لماذا فيردي بالذات؟ لا يملك الباحثون إجابة محددة قاطعة، لكن يبدو أن اسماعيل كان يرى في فيردي أهم مؤلف موسيقى في العالم وقتها. كما أن موضوعات أوبراته كان فيها بعد سياسي لم يكن متوفراً في باقي الأوبرات.

لكن عندما تقدم الخديوي بالعرض إلى فيردي، رفض هذا الأخير في البداية القيام بتأليف المقطوعة الموسيقية المسرحية. وربما كان رفضه يعود إلى عدم احتياجه إلى المال، لأنه كان يجني أرباحاً كثيرة من أوبراته، كما أنه كان صاحب أراضي، أي entrepreneur بالتعبير الحديث. كذلك اعتبر فيردي أن تأليف قطعة موسيقية صغيرة لا ترقى إلى مرتبه أوبرا يُعد مضيعة لوقته الثمين. لاحقًا وبعد تدخل أطراف أخرى، وافق فيردي حين علم أن المشروع قد تغير من hymn أي أنشودة إلى مشروع أوبرا وليس مقطوعة صغيرة فحسب.

من هي الأطراف التي ساهمت في إخراجه إلى النور؟

إذن، رفض فيردي كتابة الأوبرا في البداية لأن المبلغ المعروض عليه لم يعجبه، فما كان من الخديوي الفنجري إلا أن أعطاه كارت بلانش بالمصاريف التي تشمل أجرة ايده وتكاليف الإنتاج. ومن هنا تحول التحمس إلى المشروع من مجرد توسيع رقعة النفوذ الأوروبي في بلاط الخديوي وتثبيت دعائم الفرنكوفيليا في قلبه إلى نوع من انتهاز فرصة فتح باب كنز علي بابا على  مصراعيه أمام الشخصيات المنخرطة في مشروع الأوبرا وهم:

نبدأ بصاحب الحبكة. يبدو أن أطراف عديدة تدخلت في اختيارها، وربما يكون من بينها الخديوي اسماعيل نفسه. لكن ربما يكون أول من اقترح تلك الحبكة كان Mariette مارييت عالم المصريات والآثار الفرنسي ومؤسس متحف بولاق. يمكننا ألا نسميه مؤلف الحبكة الأوحد، لكنه من فتش عنها وأخرجها من بين طيات التاريخ المصري القديم. فقد استوحي مارييت قصة انتصار حقيقي للجيش المصري في معركة حاول فيها الأعداء غزو مصر من الجنوب، من ناحيه النوبة. لكن الأخ مارييت أتى بقصة الحب/الخيانة، والتي لم تكن جزءا من تاريخ تلك الحرب. ووضعها، فيما يبدو، على أساس أن تكون البهار الذي يثير حماسة فيردي لكتابة ألحان شجية!

ويُقال أيضاً إنه قد اختار اسم عايدة Aida المصري الأصل والذي كان موجودا على حجر رشيد نفسه بالنطق المصري Aita وإنهم بدلوا حرف التاء إلى الدال لمعرفتهم أن من سيغنون الأوبرا سيفعلون ذلك.

الشخصية الأخرى التي لعبت دوراً مهماً في إنتاج الأوبرا كان إيطالياً مقربا من الخديوي له تاريخ في العمل المسرحي في السيرك والأوبرا. وقد عينه الخديوي، فيما بعد، المدير المسؤول عن الاحتفالات.

ونصل إلى الشخصية الفرنسية التي لعبت دورا محوريا في هذا الأمر، ألا وهو Du Locle دو لوكل مدير Comique-opéra Paris، الفرنسي القابع في باريس الذي تولى مهمة الوساطة مع الموسيقار الشهير الذي تدلل على الخديوي ووسطائه ردحاً من الزمن. بل إن السيد دو لوكل هو من عين نفسه الناشر الحصري للأوبرا في رسالة مفادها: [كل المصاريف عليا يا عم فيردي  متنعتش هم. بس كل حقوق النشر والتوزيع بتاعتي.] وقد حصل دو لوكل على مبلغ محترم من الحكومة المصرية وفوقيه بوسة. وهو من استطاع إقناع فيردي بالمشروع بل قال له [اطلب عنيا قلبي وعنيا فداك]. في الحقيقة قال له بالفم المليان:

لو نفسك نهديك هرم من أهرامات الجيزة هدية ميغلاش عليك!

وأخيرا الموسيقار العظيم فيردي وهو صاحب الألحان بالطبع ومن حمل خلود هذا العمل على عاتقه. 

وللاسف وفق اسماعيل على كل هذه الشروط من أجل أن تخرج أوبرا عايدة إلى النور. وانا لا أشك في نوايا اسماعيل تجاه كل ما يتعلق بهذه الأوبرا أو باحتفالات افتتاح قناة السويس عموماً. لكن للأسف اسماعيل لم يقدر كم المصاريف التي تحملها من أجل هذه الاحتفالات، ولم يقدر تبعاتها التاريخية والثقافية بل والاقتصادية على المصريين على المدى البعيد.

حتى أن ادوار سعيد كان قد ذكر تلك الأوبرا على أنها مثال على نتائج الاستشراق على ثقافتنا العربية وقال إنها مثال على:

“a cultural discourse relegating and confining the non-European to a secondary racial, cultural and ontological status” (1993).

“الخطاب الثقافي الذي يحيل ما هو غير أوروبي ويقصره على مكانة عنصرية وثقافية وأنطولوجية أدنى.

وأنا أرى أن رأي ادوارد سعيد فيه وجاهة كبيرة، لأن أوبرا عايدة تمثل في رأيي جسراً ثقافياً بين أوروبا ومصر، لكنه ليس جسراً متكافئاً، حيث أن الأوروبيين لم يؤلفوا القصة من أجل مجد مصر، بل من أجل مجدهم، ومن أجل خدمة مشروعهم الاستعماري وقتها. حيث أن المحيطين بالخديوي كانوا يدركون تماما أن حلقة الديون كانت تستحكم حول رقبته وحول رقبة حكمه، وكانوا يعرفون أن المرحلة القادمة هي مرحلة التواجد الفعلي للأوروبيين في القصر وفي مناصب القيادة. وفي حين أنه في عصر والده محمد علي كان هناك بناء لنخبة علمية مصرية، فإن عملية بناء الكوادر الوطنية لم تستمر بنفس الزخم.  

الخلاصة أن أوبرا عايدة لم تكن ممثلة لمصر وأنا لا أقصد الإدانة قدر ما أقصد محاولة فهم التاريخ، كي نرى الصورة كاملة. وعندما نحب أن نعبر عن أنفسنا يمكن لنا فقط أن نتجه إلى إرثنا المصري، وهو أمر مشروع تماما، وليس فيه فكر انعزالي أو فكر طارد للآخر، بل هو فقط لغرض الترميز للهوية المصرية. في سياقات أخرى، يمكن لنا بكل ترحاب أن نجمع بين عناصر مختلفة فنية، منها ما هو مصري ومنها ما هو غير مصري، للتعبير عن التلاقح الثقافي بين مصر وباقي الدول.

Facebook Comments