(بدأت سلسلة “استمع إلى مقالاتي” على البودكاست وقناة اليوتيوب)

في هذا المقال أتطرق إلى قراءة انطباعية حول قصيدة 3 خرفان لهشام الجخ. وفصلت أكثر في حلقة البودكاست هذه التي خصصتها لنفس الموضوع. وهي على يوتيوب أيضا.

كل حديثي هنا موجه إلى الشاعر الظاهر في القصيدة وليس إلى مؤلف القصيدة هشام الجخ. مع تذكر أن المفهوم طبعا أن القصيدة هي لسان حاله بالضرورة.

بعدما كتبت هذا المقال وسجلت حلقة البودكاست اكتشفت نسخة مطولة للقصيدة لا تختلف كثيرا في مضمونها عن النص المنقح الذي اعتمدت عليه في هذه القراءة.

مصر بلد الأصل والقول الفصل. البلد التي خطت أول سطور التاريخ ثم سار العالم على خطاها. لطالما مدت يد العون والبذل والعطاء. حفرت الصخر بسواعد نسائها ورجالها. قاومت الظلم والظالمين. لم تعرف مقولة “لا توجد وجبة مجانية” بل كان قول أهلها دوما “محدش بينام من غير عشا”. ليس فقط بعطية الإله، بل بكرم أهلها وطيبة قلوبهم وتآلفهم الاجتماعي.

سمعت عن قصيدة لهشام الجخ نشرها بمناسبة أحداث الشيخ جراح والاعتداء الهمجي على المدنيين في غزة. سمعت نقدا حادا لها ولمحتواها الذي ذكر مصر والمرأة المصرية بسوء. عوض أن تقدم القصيدة وجهة نظر داعمة لحق الفلسطينيين إذا بها مجرد إهانة بالجملة لمصر وقيمتها الحضارية ودورها العظيم تجاه فلسطين وأهلها. كنت قد سمعت بعض القصائد لهشام الجخ فيما مضى. فأردت أن أقرأ القصيدة بنفسي لأرى ما جاء فيها.

مع شديد الأسف القصيدة تهين تاريخ مصر التي لم تقبل يوما الضيم على قريب أو غريب. مصر التي مرت عليها المحن وظلت صامدة صابرة. كانت دوما عصية على السقوط. حتى زرعوا في قلبها عدوا غادرا يلوي لسانه بلغوتها ويسدد إليها الضربات. قاومت المحروسة طعنات الخسة والندالة وما زالت متمسكة بقيم الماعت المحفورة في قلبها الأسمر.

لم يأل الشاعر جهدا في توجيه الطعنات إلى بلده التي تنصل من حبها وتمنى لو كان من “البهائم” كي ينفض عنه رداء الوطنية. القصيدة حافلة بالتنميط والتشبيهات التي جانبها الصواب والأفكار غير المكتملة. فهو يحدثنا عن تفرعن فرعون، متناسيا، وهو ابن الصعيد أي القلب النابض بحضارة مصر القديمة، أن فرعون هو قائد مصر وملكها. هو رمز حضارتها التي قامت على العدل والعلم والخير والحق. والأسوأ أن رسالة قصيدته محملة بإحباط وما يمكن أن نسميه بالـ whining وهو التباكي مع الشكوى التي لا تؤخذ على محمل الجد وتفوح منها رائحة الضعف والذلة والهوان وقلة الحيلة. هذا هو الصوت الذي حملته لنا أبيات هشام الجخ.

سئمنا القوالب المصبوبة في الردهات المظلمة المسوقة على الشفاه الخائنة. يعيد إنتاجها شاعر يحمل راية مهترئة بالية. يقتات على العوز والحاجة والتقتير والضعف. يغلق طاقة النور ويلهث وراء أصوات غامضة تدعي الغضب.

لماذا كتب الشاعر قصيدته بالمصري إن كان ينوي العَوَج على جسر المعاني؟ لِمَ لم يختر ماعونا ضحلا يحمل إهاناته للمحروسة، محملا قصيدته عقدا لم تفك ولم تحل ولم يشفها الزمن حتى بعد عشرين سنة؟

بل إن كراهة النساء تقطر من كلمات القصيدة. فقد اختزل الشاعر دور المرأة على الأمومة واختزل دور الأم في تقديم ابنها للحرب. حتى حين ظن الشاعر أنه يمجد في نساء فلسطين، لم يتذكر ما قدمنه حين كن فدائيات

(الذاكرة السمكية للقصيدة لم تقرأ تاريخ النضال النسائي الفلسطيني.)

أو حين وقفن يدافعن عن حق شعبهن أمام المحافل الدولية.

(فاكرين حنان عشراوي التي اكتسبت أرضية واحترام لقضية وطنها فلسطين أمام العالم بأسره؟”

لم يأت الشاعر على ذكر المحاميات ولا الطبيبات ولا الكاتبات ولا الشاعرات ولا العاملات ولا العالمات. تناسى كل مظاهر الحكمة الأنثوية. عوض ذلك أخذنا إلى مذبح جردته الأبيات من طهارته ونزعت عنه قدسيته. اختزل الشاعر مجد المرأة الفلسطينية في إذكاء المحرقة والبقاء في الحداد الدائم.

أما المرأة المصرية ففد أهانها الشاعر في نفس العبارة بلا خجل ولا حياء ولا بقايا عدالة شعرية. المصرية الصابرة القوية العزيزة النفس. تناسى أننا لا نعلم أولادنا تحية العلم كي يهينوا النساء ولا نتوقع أن يصيبهم وهن الروح حين يصلوا إلى منتصف العمر ولا ننتظر منهم زرعا ولا قلعا في تربة ميتة.

هل تتهم المصريين بالهوان؟ منذ النكبة لم تساند مصر قضية غير مصرية كما ساندت القضية الفلسطينية. بل يجب أن نجزم أنها صارت قضيتنا لأنها قضية إنسانية بالدرجة الأولى، ولأنها جزء من أمن مصر القومي وللجذور التاريخية التي تربط بيننا وبين الكنعانيين.

هناك أبعد ما تناسته القصيدة بسبب التنميط وضيق الأفق في التفكير في مسألة النضال ضد أي محتل وخاصة إن كان محتلا يمتلك تأييدا دوليا يكاد يكون غير مشروط. إذن دعونا نتساءل؛ هل يأخذ النضال شكلا واحدا؟ هل يتحرك التاريخ في خط أفقي؟ هل يمكن اختزال التاريخ في نقطة ضئيلة؟

هذا ما حاولت القصيدة إيصاله إلى القراء والمستمعين.

تاريخ مصر الداعم لفلسطين لن ينته إلا بعودة الحق إلى أصحابه. نقطة ومن أول السطر.

هذا ما حاول الشاعر خلال قصيدته التباكي عليه، مدعيا أن المصريين “قوالة” وبالطبع لم يستثن نفسه. فعلينا أن نعتبره من “القوالة” هو كمان!

أم أنها الخسة التي زُرعت منذ منح المستعمر شيك الخمسمائة جنيه مصري نقدا وعدا؟ أم أنها كراهة الحياة التي تدفع بطاقة الشباب وقودا لعنف بلا تخطيط؟ أم أنه جهل بمغزى الحرب نفسه وكيف تعيد توزيع التوازن للقوى الجالسة على مائدة التفاوض مما يضمن استعادة الحقوق؟ أم أنه ترويج لفكر عابر للحدود، فكر معاد للوطنية يصمها بالجهل يطلب منا أن نتصرف كعصابة نستبدل علم الوطن براية تشرذم؟

أرأيت أيها الشاعر؟ لم تتعلم شيئا من تحية العلم.

أخيرا، صحيح أن الشاعر قد يكتب قصيدة تحت تأثير إنفعال تجاه حدث ما. لكن من حسن النوايا مراجعة ما كتب لأن الكلمة مسؤولية. وهذا ما تناساه الشاعر حين احتج أن قصيدته كُتبت منذ عشرين عام. وفي كل حال من حق القراء في كل عصر تقديم رؤاهم وتفسيراتهم للنص الشعري بغض النظر عن ظروف كتابته.

باستثناء البيت الأخير من القصيدة الذي قرر فيه الشاعر التواري خجلا من كتابة الشعر باللغة العربية بعد أن طلب مهلة عام لتعلم العبرية، أنا كامرأة مصرية أرفض جملة وتفصيلا هذه القصيدة التي تنضح بكراهة المرأة واحتقار الهوية المصرية وإنكار تاريخ مصر وتضحياتها ومساندتها الدائمة للشعب الفلسطيني.

(مصدر صورة المقال)

Facebook Comments