كتبت “يا أرض انهدي” على نسق قصص قصيرة دارت بخلدي حول تحولات جذرية في عقلية المرأة المصرية في بدايات القرن الحالي وحتى اليوم. هذه القصة هي واحدة من مجموعة قصصية ربما أنشرها معا في كتاب اخترت عنوانه بالفعل. وأتمنى بالطبع أن أتمكن من ذلك.
يا أرض انهدي
بقلم نادية توفيق
تسير مختالة بجسدها الذي أبرزته العباءة السوداء دون أن تصل لحد أن يرفض الزوج الخروج معها. كان رجلا سهل المراس وديعا مسالما لا ينخرط في نقاش طويل أو جدل ممتد. كان رجلا موزعا بين عالمين، بين امرأتين، البون بينهما شاسع. الأخرى ليست محل ذكر أو مقارنة فقد أهيل عليها تراب الزمن والشيخوخة والأمومة. أصبحت نسيا منسيا في تاريخ رجل يحبو نحو الستين، بحاجة إلى إعادة تدوير لعواطف طمرتها سنوات عمل شاق مجز.
داخل العباءة الدوبل كلوش والطرحة السوداء الحرير الشيفون التي تحمل نفس الفصوص الذهبية والخضراء الملفوفة بحرفية حول الكتفين ومع كحل تقليدي يدوم أياما ويؤكد خطوط عينيها الواسعتين وحاجبين يحرسان العين تضمن أن الرجل قد غادر عالم المرأة الأخرى إلى الأبد. حاولت أخته إقناعها بارتداء الإسدال، لكنها كانت تعلم أنه درب بلا نهاية، سيوصلها إلى إلغاء وجودها الفيزيقي في الحيز الذي بدأ يتسع لها أخيرا في العالم السحري لصاحب الاسم الرنان في عالم المقاولات في دنياها المحدودة بحدود ألبومات تامر وعمرو ودياب وما يقصه عمر (خالد) ومصطفى (فتحي) ومعتز (مسعد) من مختارات القصص التي يحلق بها الشباب في عالم الروح وما تتلقفه عيناها من فخامة البيوت الراقدة في قلب صحراء زُرعت بحمامات السباحة، وممثلات شابات لا يجدن صعوبة في الحصول على بشرة نقية وشعر صحي حتى وهن في قلب عاصفة من المآسي العائلية والعاطفية في سيل مسلسلات لا يبل ريق قلوب أمثالها من الفتيات العطشى لمجد الفيلا والخدم المهندمين الذين لا تصدر عنهم كلمة نابية ويشاهدون الأسياد يرفلون في ترف الرذيلة فيدعون لهم بالهداية ولا يشوهون صورتهم في قلب أطفالهم الحفاة بعد أن يعودوا من المدرسة ويستعدوا لبيع الذرة المشوية، وشؤون الحياة التي تسير عن بعد بهاتف أو موبايل وذلك الشخص الجاهز دائما بعصاته السحرية لجعل كل شيء ممكنا وطبيعيا وجميلا طالما كان مكتوبا في السيناريو.
لم تختر العباءة لأنها لا تملك أن ترتدي أجمل أزياء المحجبات من ’سكارفا ‘و’ليدي ستايل‘ و’لمسات‘ و’مدينة بريوني للمحجبات‘ أو حتى من محطة الرمل بالإسكندرية عروس البحر المتوسط التي استقبلتها عروسا في شهر عسل امتد لأربعة أيام عادت بعدها كي تتسلم مهام عرشها الجديد. لأنها من معتنقي فكر معتز مسعد الذي كانت تعشقه سرا وتكتفي بهذه الخطيئة، لأنها كانت تعلم أن السير في السكك التي مهدتها لها حياة الجامعة سيفسد عليها مستقبلا تراه مفتوحا بفضل القد الملفوف والعينين الفصيحتين والصوت المرتعش. كانت تخفي روايات عبير وزهور في كرتونة صابون تحت سريرها وتكتفي باشتهاء شاب يجيد الإنجليزية ويرطن بها كما يفعلون في الأفلام الأجنبية ولكن يعرف الله ويخشاه. كانت تعي جيدا أن خروجها من البيت الذي يصرخ مطالبا بطلاء جديد لجدرانه وطقم حمام يليق بالقرن الواحد والعشرين يحتاج إلى جواز مرور لا يحمل أختامه أي شاب ممن يملكون حسابات على الفيسبوك. كانت تعلم أن عليها العودة إلى الزمن الجميل كي تنتقي منه رجلا يدفئها داخل عباءة مطرزة شغل يدوي وارد الخليج غير ملوثة بالأنسجة الصناعية ويلقي عليها رداءه كي تكون له زوجة.
نشرت القصة لأول مرة في مجلة “ميريت الثقافية” عدد إبريل 2020. لقراءة الصفحة الأولى والثانية. كما يمكن تحميل العدد كله من هنا.
وها هي تنشر للمرة الثانية في مجلة مميزة وهي “أيقونة ميزوبوتاميا للآداب والفنون”.
الحقيقة أن أول ما لفت نظري إلى هذه المجلة هو اسمها. فميزوبوتاميا هي مهد إحدى أكبر وأهم وأقدم حضارات آسيا. وهي تحمل تنوعا ثقافيا ذا نكهة خاصة. ولم يخب ظني فالمجلة تضم مزيجا متميزا من الأدب العربي والكردي. وأنا أدعم التنوع داخل لغتنا العربية. وأعتبر كل اللغات الإقليمية هي إضافة وإثراء لها. خاصة إن كان هنا منتوجا فكريا وثقافيا سواء أكان فن قصصي أو روائي أو شعري أو تمثيلي أو موسيقي، يقدم باللغة العربية ويعبر عن ثقافة لها خصوصيتها مثل الثقافة الكردية. التي بحكم الجغرافيا والتاريخ صارت جزءا من التاريخ العربي.
المجلة تنشر القصة والشعر ونقدهما. وتضم جنبا إلى جنب مقالات وأعمال إبداعية باللغتين العربية والكردية. وقد كنت أظن أن اللغة الكردية تكتب بالحرف العربي. وجاءتني الإجابة على إحدى منشورات المجلة على فيسبوك:
وقد شرفني الشاعر السوري الكردي “عبد الوهاب بيراني” بهذا التعليق بعد قراءة القصة:
خيوط متنوعة لقضايا مختلفة تشابكت ..
بلغة جميلة ومكثفة مكنت القارئ من ولوج النص ..
شخصيات عديدة رئيسية وهامشية تابعتها ..
لفت نظري تركيزك على اولئك المهمشين من خدم وسفرجية وسائقين وغيرهم ممن يعملون في الففل الفخمة ..
وقضية الرجل المتعدد الزوجات ..
وللاستزادة يمكن زيارة
صفحة عبد الوهاب بيراني الشاعر والكاتب السوري الكردي على فيسبوك
Facebook Comments